السبت، 22 أغسطس 2020

مول الفران


عبارة كانت ترددها أمي قد ضبطتها الأمثال الشعبية من عقود خلت، وقالت عن“صاحب الفران” :”مول الفران، وجهو للنار وظهره للعار”.ذات مساء من أمسيات رمضان الكريم كانت تراودني رائحة الكعك وكعب الغزال المنبعثة من فران عمي فتحي رحمه الله. رفقة جيش من الأطفال والكبار في طابور ينتظر صينية أو اثنتين لحملها إلى البيت القريب مدججة بأنواع من حلويات العيد.كان بيتنا القديم يتحول إلى خلية نحل تتجمع فيه سيدات الحي من أجل صنع الكعك إلى السحور،يتبادلن أطراف الحديث ،يرتشفن فنجانا أو فنجانين من القهوة و هن يتغنين بوليمتهن ويتفنين بصنيعهن لمباهاة ومفاخرة أقربائهن وصديقاتهن وجيرانهن.فران عمي فتحي ليس بالبعيد،يقبع في الجهة الشرقية لمنزلنا،لا تصله الأعين إلا بعد أن تلف زقاقا تحذوه أدراج منمقة بأزهى الألوان. على بساطتها،كانت تنم عن ذوق رفيع، تتخلله أعمدة خشبية مستوية على جدران مصنوعة من الطين والطوب الأحمر ، ما أن تقترب من فران عمي فتحي حتى تلفحك رائحة الكعك المنتشرة في كل مكان.

مشهد صواني الكعك وهي تجوب أزقة الحي نهارا وليلا أمرا حتميا، فلا يخلو بيت من البيوت من عبق العيد،حالة من الاستنفار لاستقبال الوافد الجديد.

فران عمي فتحي يعود إلى العهد القديم ،تبدو جدرانه بدائية وسقفه مغطى بالصفيح،بجانبه أطنان من خشب مختلف ألوانه ومذاقه،بداخله غرفة "بيت النار" المعزولة، بالإضافة إلى المعدات الخشبية الطويلة التي تستخدم لإدخال أصناف العجين والأطعمة المختلفة

.

يجتهد عمي فتحي في دغدغة أنوف المتزاحمين،وسحر أعين الناظرين ببريق الجمر اللامع المنعكس على سطح الحلويات،وعندما تستوي نضجا يسحبها عمي فتحي بحنو ومرونة بواسطة ذراع خشبية طويلة و هو يمسح جبينه المتلألئ بحبات العرق.

يتوافد على فران عمي فتحي كل أهالي الحي لأنهم يؤمنون أن نكهة الحطب تترك أثرا طيبا على الطعام ليتكرر مشهد الانتظار.

كنا نمضي الليلة كاملة ونحن نترقب ميلاد الحلويات التي تزين مائدة العيد تحسبا لزائر قريب أو بعيد فكم كانت تلك الليالي جميلة هنيئة،قد تكون تلك هي السعادة بعينها.في كل مرة تدخل رائحة الكعك إلى نفسي أشم رائحة جد قد رحل و أم وأب كانا يوما هنا.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحياة

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا وخالٍ يشتهي عملا ً.. وذو عملٍ به ضَجِرا ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا وذو الأولاد ...