الجمعة، 1 فبراير 2013

التداخل النصّي والتعدّدية الصوّتية

التداخل النصّي والتعدّدية الصوّتية
في مجموعة (حرائق تحت المطر) للشاعر:
الطيب بوغديري
ميزوني محمد البنّاني
يقول "النهشلي" أحد نقاد الأدب العربي ومؤرخيه القدماء في كتابه (الممتع في علم الشعر) : (قال بعض علماء العربية : أصل الكلام منثور. ثم تعقب العرب ذلك...)(1) وقال : (لما رأت العرب المنثور يندّ عليهم, وينفلت من أيديهم, ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم, تدبروا الأوزان والأعاريض, فأخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستويا)(2) "ورأوه باقيا على ممر الأيام, فألفوا ذلك وسموه شعرا"(3) فإن صحّ "أن النص الشعري العربي متولد عن النص النثري"(4) فإن ما نشاهده في العصر الحديث من تداخل بين الأجناس الأدبية في النص الشعري إنما هو خروج عن (النص – الأنموذج) وعودة إلى الأصل (النثر) من خلال ما أحدثه الشعر الحديث "من تغييرات جديدة في بنية النص الشكلية والدلالية, كان أبرزها – دون شك – تجربة الشعر الحر التي كان من أبرز نتائجها :
أولا : إلغاء سلطة الشكل الواحد المتكرر, وتعدد الشكول.
ثانيا : إلغاء اجناسية النصّ والقول بتداخل النصوص.
ثالثا : إلغاء فكرة النصّ المغلق, وإعادة تشكيل العلاقة بين القارئ والنص من خلال ما دعي بالنص المفتوح"(5).
 هذه العودة التي أباحث التداخل الحاصل في نسيج النصّ الشعري الحديث, سوف تكون لنا مدخلا إلى الحديث عن سقوط الحواجز بين الأجناس الأدبية وتداخل ضروب الخطاب وتعددية الأصوات في المجموعة الشعرية (حرائق تحت المطر) للشاعر التونسي (الطيب البوغديري) أستاذ المسرح في المعاهد الثانوية
وهي مجموعة صادرة سنة 1988 عن دار الحرية للطباعة ببغداد في 167 صفحة من الحجم المتوسط وتمثل باكورة إنتاج "البوغديري". نشرت مجلة "الطليعة الأدبية" والجرائد اليومية والأسبوعية العراقية جل قصائدها. وأثارت القصيدة المطولة "حرائق تحت المطر" التي مهر بها كتابه هذا عديد القراءات أثناء دراسته الجامعية ببغداد. فما هي وظيفة التداخل النصي والتعددية الصوتية في هذه المجموعة الشعرية ؟
لا يخفي النصّ الشعري في مجموعة (حرائق تحت المطر) تداخله مع نصوص سردية مختلفة مثل المسرح والقصة وأدب السيرة الشعبية, بل نراه منذ البدء يستعير من المسرح مفرداته فيطلق على إحدى قصائد الديوان عنوان "مشهدان" وتحت عنوان فرعي أول هو " قبل رفع الستارة" يمهد للإطار الزمكاني الذي ستدور فيه الأحداث كما تفعل كتب الأدب المسرحي قائلا :
" هناك
 تموت الفصول
 وأنت تحث خطاك
إلى مدن المستحيل" (6)
إنه مكان قصي يدل على بعده اسم الإشارة "هناك" في زمن مفتوح على موت الفصول والجري خلف المدن المستحيلة.. إنه إطار مكابدة وصراع ضد الموت والنسيان والمستحيل.
بعدها يرفع الشاعر "ستارة" المسرح ليضعنا من خلال قصيدة المشهد الأول أمام الجندي الأول :
" جندي 1 :
أنا, هنا
أقاتل الغربان دونما
وهن
دمي على الحدود شوكة
وأخضر في قلبي
الوطن". (7)
إنه صوت "الجبدي1" وهو يصرخ مصارعا "الغربان" بكل ما تعنيه من شؤم وسواد ورداءة.. يصارعها على "الثغور" فيسيل دمه على الحدود نداء للوطن الذي يهدده العدو وتضحية من أجل أن يبقى دائما مخضرّا. فللقضاء على اللون الأسود رمز المعتدي, لا بد من اللون الأحمر رمز التضحية الذي يحيل الوطن إلى اخضرار في القلب كاخضرار النبتة المرتوية.. لا بد من دماء تبذل لكي يخضرّ الوطن.
وما يكاد "الجندي 1" ينهي كلامه حتى يخرج لنا من بين السطور صوت تحت عنوان فرعي ثان" ما غنته الساقية للجندي رقم 2":
" غنّ
 وكن, هنا
فإنني, والشمس والضباب والسماء والجبال كلها معك.
غنّ
فإن الربّ يعشق الصلاة من فمك" (8)
إنه صوت الساقية, تبشر الجندي رقم "2" بمباركة الشمس والضباب والسماء والجبال لتضحيته بنفسه. فغناؤه صلاة يعشقها "الربّ".
صوت آخر تحت عنوان فرعي "ثالث" "راقصة تنادي" ينبعث محتفلا هو الآخر بالجندي داعيا إياه إلى الإقبال قائلا :
" تعال واشتبك
معي
لا ترتبك
عاشقة أنا وأطلع الأعشاب عندما تموت
من دمك" (9).

إنها تعده بالانبعاث, بعد الاشتباك, فالموت من أجل الوطن ولادة جديدة وبذرة تطلع من الدم – تطلعها عاشقة – فتصبح عشبا أو شجرة. وشجرة، شجرة تتكون غابة تظلل الوطن.
وفي قصيد "المشهد الثاني" يطالعنا عنوان فرعي أول يحمل "ما روي عن الجندي رقم 2 بعد استشهاده" يحيل علينا في آخر الأبيات صوت العصافير:
(تجيء العصافير مثقلة بالتوجس والحب والأمنيات) :
أيهذا الوطن
إنني لم أخن :
آه :
كيف لعصفورة أن تخون
 وليس لها من كفن
غير تربتك المشتهاة ؟ :
............................. " (10)
وينتهي المشهد الثاني منفتحا على الدهشة والاحتمالات بنقاط متتالية تضمر الإجابة عن سؤال استنكاري بصوت العصافير تدفع عن نفسها تهمة خيانة الوطن.
وينزل الشاعر "الستارة" ليخرج علينا معقبا تحت عنوان "تعقيب على ما لم يره المشاهد" لنضفر بمصطلح مسرحي آخر مهم وأساسي في كل عمل مسرحي هو "المشاهد" ينضاف إلى المصطلحات الآنفة الذكر مثل "المشهدان" و"المشهد الأول" والمشهد الثاني والقائمين بالأدوار مثل "الجندي 1" و "الجندي 2" و"راقصة" و"الساقية" و"العصافير" في مكان وزمان مناسبين, ومثل هذه العناصر ضرورية لتحقيق التداخل النصي بين الشعر والمسرح مع حرص واضح على ألا تتحول القصيدة الواحدة إلى مسرحية شعرية في مطمح بات الآن واضحا هو التشبه بنموذج أدبي ملتصق بالمسرح تسعى سائر الأجناس الأدبية إلى التشبه به ألا وهو "الدراما".
وقصيدة "مشهدان" في ظل التوظيف المحكم للعناصر المسرحية هي قصيدة درامية ما دامت تتصف ببعض الخصائص الفنية للدراما وتستخدم بعض وسائلها مثل الصراع والتجسيد والتضحية والانبعاث. فالدراما في مفهومها البسيط مثلما يعرّفها الأستاذ عمر الجمني مقداد في إحدى الحوليات الجامعية "هي الصراع في أي شكل من أشكاله بدءا من الاختلاف وانتهاء بالصدام .
هي المواجهة بين نقيضين..." (11) وقصيدة "مشهدان" قائمة على الصراع ضد "الغربان" والسواد والنسيان والتجسيد لا التجريد. وقصيدة مشهدان تقوم على التجسيد من خلال محاكاة فعل تام يستغرق مدة من الزمن يقوم به أشخاص يفعلون..." (12) : (الجندي 1 – الجندي رقم "2" – الساقية – راقصة عاشقة – الطيور.) ومدارها التضحية (تضحية الجنديين) والانبعاث مثل انبعاث الجندي (1) فمن دمه تطلع الأعشاب...
 ويتواصل التداخل النصي في بقية قصائد المجموعة لكن بأقل كثافة مما رأيناه في قصيدة "مشهدان" وذلك من خلال خطابات مسرحية أحيانا وحوارات قصصية أحيانا أخرى, ففي قصيد (أغنية ماسح الأحذية رقم 1) نقرأ أمنية مشروطة ـ" لو" لماسح الأحذية رقم "1".
" لو ينزل المطر
ألقي الصناديق,
أقول للقمر
تعال, تعال أيها القمر,
أتمسح هذا الحذاء ؟
- بكم ؟
- بخمسين فلسا.
لتجلس
لماذا تمسح أحذية الآخرين؟
وخفّك فوق جبينه كل غبار الزمن" (13)
فالشاعر في هذه الأبيات أدخل ماسح الأحذية رقم "1" مباشرة في حوار مع القمر رغم أن هذا الحوار – حسب الأبيات – لا يتمّ عمليا إلا عندما ينزل المطر فترتوي الأرض وتغدق على الناس من خيراتها. والحوار كما يبدو ليس حوارا عاديا مملا, لأنه يحمل شيئا من العجائبية بدونها ما كانت أذهاننا تستمتع بصورة ماسح الأحذية يمسح حذاء القمر.
 ومما زاد هذه القصيدة إيضاحا للصورة الشعرية, هو تمكن الشاعر من طريقة اختلاف المقاصد المعتمدة في المسرح أثناء الحوار, فماسح الأحذية حين يخاطب القمر له مقصد غير مقصد القمر أثناء الرد. وعلى هذا النحو يتواصل الحوار في اختلاف ظاهر باطنه ائتلاف كامل :
" - أحيّ أبوك ؟
- نعم...
- أبي أطرد الآخرين ومات.
- بخمسين فلسا ؟
- خذ...
 وأكمل قهوته الباردة,
 وقام يطارد تلميذة عائدة..." (4)
 فانظر كيف أن ماسح الأحذية يجيب عن سؤال القمر : "أحيّ أبوك؟" بأن أباه مات شهيدا من أجل الوطن, فيواصل القمر حديثه سائلا : "بخمسين فلسا؟" وهو سؤال له قصد واضح لا علاقة له بما سبقه من جواب ماسح الأحذية, إذ أن القمر يسأل ليتأكد وقد أكمل الماسح مسح حذائه من أن ثمن مسح حذائه هو فعلا "خمسون فلسا". هذا ما يبدو ظاهرا, أما ما خفي فيحمل صورة يبدو من خلالها الأب الذي أطرد الآخرين ومات من أجل الوطن قد كرّمت روحه بهذا المبلغ البسيط الذي قد يكون ثمن القهوة التي كان يترشفها ماسح الأحذية, وبالتالي يصبح الصوت الذي سأل: "بخمسين فلسا؟" صوت النادل.
 وطريقة اختلاف المقاصد في المسرح تقنية نجدها في المسرحيات الذهنية مثل "شجرة الحكم" و"أهل الكهف" لتوفيق الحكيم وبعض مسرحيات "موليار" و"شكسبير".
 وإلى جانب الأدوار نجد في بعض قصائد الديوان الأصوات التي تصاحب عادة ديكورات المشاهد المسرحية مثل المنبهات الصوتية وتكتكات المطر, والأغاني المنبعثة من آلات البث الإذاعي, والدندنات, وهذه الأصوات إذا ما دخلت نسيج النص الشعري وانسجمت معه تفعل فعلتها معنى ومغنى, مثل هذه الدندنة في (أغنية ماسح الأحذية رقم (1) ):
" - كهذا الوطن
يجوع وخيراته...
دن... دن... دن... (يغني)
أعندك بعض السجائر. إني أحس دوارا.
تعبت من الركض خلف المعاطف والقبعات."(15)

هكذا وظّف الشاعر الكمية الصوتية "دن" المقتطعة من فعل "دندن" لإضمار كلام التلميح به في بعض المواقع أبلغ من التصريح به, فأصبح هذا الصوت يقوم مقام جمل شعرية بذاتها تفهم بالغياب.
 ونستطيع أن نضفر بكميات صوتية من نوع آخر في بعض قصائد المجموعة, مثل ذلك الصوت الناتج عن ارتطام قطرات المطر بالأرض في قصيدة "حرائق تحت المطر" :
"(تك... تك... تك...)
المطر هذا اللّذيذ
وصدى أغنية قديمة...
وأشياء مضت عليها أحقاب.
تستيقظ داخلي, كالسكاكين, "(16).
فالصوت "تك" يصبح موقظا لأغنيات ورسوم كثيرة في ذات الشاعر بوتيرة متصاعدة تصاعد وتيرة التكتكات, وإذا كانت قد لعبت دور التصعيد في بداية القصيدة فها هي تتحول إلى عنصر تهدئة وخفض ضغط للقصيدة في آخرها:
"الآن مضى المطر...
فبقيت وحدي أتلمض بقايا الرذاذ
وأجمع حرائقي...
تك
تــ.ك
تــ..ك
تـــ...ك
تــــ....ك (17)
 وقد تعمّد الشاعر الفصل بين حرفي "تك" بنقطة في السطر الأول وبنقطتين في السطر الثاني وبثلاث نقاط في السطر الثالث لينقل إلينا صوت انخفاض وتيرة سقوط المطر من قطرة إلى أخرى إلى أن خمد الصوت نهائيّا وعاد كل شيء في آخر القصيدة إلى سكونه الأول.
 ولم يتوقف هذا الصوت عند هذا الدور إذ قام بأدوار أخرى في بقية ممرات قصيدة "حرائق تحت المطر" من ذلك أنه يرسل ضربا من الإيقاع المتناغم مع خطوات المحبوبة وهي تمر في الشارع :

"(تك..تك..تك...)
 قطرات المطر
تسرق إيقاعها من إيقاع خطواتك الخجولة (18)
كما تتناغم مع نبضات قلب الشاعر :
(تك..تك..تك...)
المطر.
خطواتك
نبض قلبي
على إيقاع واحد
حين أحبك "
 إلى هذا الحد تماهى إيقاع قطرات المطر مع إيقاع الخطوات ونبضات القلب إلى درجة فقدت فيه القدرة على التمييز بين ما هو إيقاع خارجي وما هو إيقاع داخلي.
 ولم تقف هذه التعددية الصوتية عند حدود الإضمار والتصعيد والتهدئة وتنظيم الإيقاع بل تعدت ذلك إلى وظيفة أخرى, ففي قصيدة (دمي للعراق) يتجلى لنا شكل جديد من الأصوات هو "راق" :
" أبي عاد هذا الصباح

وجالسته وجالسته تحت ظل الرّواق

وغنيت حتى انتشى
فغنى : " دمي للعراق."
ورددها النخل :
"...راق.."
"العراق"
"...راق." (19)
والصوت "راق" هو المطلع الثاني من اسم العلم (العراق) فهو جزء من كلّ، لعب في الأبيات دور الفعل راق / يروق / روقا / وروقانا : راق الشراب صفا / وراقه الشيء أعجبه وسرّه, وقد قام مقام فعل تام فاعله (العراق) لتوسيع الحقل الدلالي.
هذا بعض ما تداخل من الأدوار المسرحية والأصوات المتنوعة مع النص الشعري في (حرائق تحت المطر) في تعددية وظيفية رأينا كيف اشتغل على المعنى والمغنى في خطاب شعري سوف نرى كيف تداخل أيضا مع ضرب آخر من ضروب الخطابات السردية وتميز بخاصيات حكائية :
الخطاب السردي السّيري :
إن حضور البطل الشعبي في الكتابات القصصية والشعرية يكون أقرب إلى نفس القارئ أكثر من أي حضور لأبطال من نوع آخر, فهو حمّال لخصوصيات القارئ وملامحه وهمومه ومشاكله وقيمه التي يذود عنها... هذا القارئ يتفاعل أكثر ويخشع إذا كان البطل ذا سيرة تحاكي سيرة الأنبياء والصحابة وأولياء الله الصالحين. وقد تفطّن الشّاعر (الطيب بوغديري) إلى هذه الصلة الحميمية التي تنشأ بين القارئ وأصحاب السير, فراح يسرد علينا شيئا من سيرة أبيه الذي ارتبط في قصائده بالأرض أكثر ممّا ارتبطت بها المرأة بصفة عامة في قصائد شعراء كثيرين, وقد خصّ الطيب بوغديري أباه بأربع قصائد هي :
(القنبلة ص 17) وتمتد على صفحة واحدة.
(أبي ص 45) وتمتد على ست صفحات
(سيرة أبي المبتورة ص 61) وتمتد على صفحتين
(دمي للعراق ص 125) وتمتد على صفحة واحدة
كما خصة في قصيدة (التداعي ص 142) بثلاثة أبيات.
فعلى امتداد عشر صفحات, اكتملت في أذهاننا صورة هذا الأب الفقير الذي عندما حل بالدجاجات وباء لم يجد ما يشتري به حذاء لابنه التلميذ الحافي. ولكن فقره هذا لم يمنعه من أن يكون بطلا يكتشفه ابنه في قصيدة بعنوان (أبي) :
" أبي بطل أيها الناس
يستيقظ الصبح مستبسلا. ويطالعك البشر من وجهه كغزال تراوده الأسئلة " (20).
فمن الملامح الدالة على بطولته الاستبسال والبشر الذي يملأ وجهه. إذ أن من المعروف عن أصحاب السير أنهم يستمدّون من فقرهم البطولة والبركة والحكمة ونفاذ البصيرة. استمع الآن إلى ما كان يردّده الآخرون (الأهل والعشيرة والأصحاب) عن هذا الرجل في قصيدة (سيرة أبي المبتورة).
"أين مضى أبي ؟
أبوك كان يكره الخطابة
أين مضى أبي ؟
أبوك كان يكوه الذين ينفخون في الربابة " (21)
إنها صفات جديدة جاءت على لسان الآخرين, فالرجل ثائر على الكلمات الجوفاء والخطابة المجانية وبيانات الشجب والاستنكار... إنها شهادة على بداية تعرّف الجماعة إلى بطلها ستتطور في الأبيات التالية من نفس القصيدة (سيرة أبي المبتورة) إلى أعلى المراتب :
"أين مضى أبي ؟
أبوك كان واحدا من الصحابة " (22)
إنه انتقال الجماعة من التعرف إلى بطلها إلى "الاعتراف به ليكون قائدها وزعيمها في رحلة الحيــــاة" (23) وهي مرحلة تلي مرحلة "ميلاد البطل" حسب د. أحمد شمس الدين الحجاجي في كتابه (مولد البطل في السيرة الشعبية) (24) وتسبق مرحلة "إخراج البطل من حيز الإنسان العادي إلى حيز الإنسان الأسطوري أي من الواقعي إلى الأسطوري" (25) وباعتراف الجماعة بنبوءة البطل أصبح بوسع الشاعر الفرد أن يسمى الأشياء بأسمائها في قصيدة (أبي).
" وأقول له : حسبك الآن أنك تحمل قلب نبيّ..
وأنك تحقد من أجل سنبلة أن أهينت
وأنك لازلت تسأل :
هل يسقط الغيم أم يستمرّ البكاء ؟
أبي...
لو رأيتم أبي...
لصحتم : "أبانا الذي في السماء". (26)
إنه بطل يتضخّم, إنه نبيّ عند الحديث عنه. يشير الشاعر إلى السماء في شبه تأليه له.
وتتعقد الأمور أكثر, وتبدأ المواجهة مع الجماعة, عندما بدأ البطل يدعو إلى مراجعة كل الأوراق, حتى ما يتصل منها بقوانين الجاذبية ودوران الأرض في قصيدة (سيرة أبي المبتورة).
" كان يقول : (الأرض في اتجاه خاطئ)
تدور كالذبابة (27)
وبذلك يكون البطل قد تجرأ على الجماعة وأعاد عليهم حديثا نعرف تاريخيا عواقبه من خلال ما جرى للعالم "قاليلي" عندما "تجرأ" فتحدث عن الأرض ملك الجماعة ومنطلق نفوذها فجعلها تدور بهم...
وتبدأ مرحلة الغربة والاغتراب وهي من أصعب المراحل وأشقها على نفس البطل إذ عادة ما تكون نتائجها مأساوية, ويظهر ذلك في آخر قصيدة (سيرة أبي المبتورة):
" أين مضى..؟
 مضى...
 إلى...
 مضى...
 إلينا...
 ثم...
 لم يعد...
 مضى إلى الأبد... (28)
فها هي الجماعة تنقلب عليه, وتغيب من سؤال الابن (أين مضى أبي) مفردة "أبي" ويصبح السؤال الجديد في آخر القصيدة "أين مضى...؟" مع نقاط متتالية تشي بتحاشي المفردة, ويأتيه الجواب جواب الجماعة فيعرف منه أنه "لم يعد..." – "مضى إلى الأبد..".
وتنتهي القصيدة دون أن نعرف لماذا مضى البطل إلى الأبد, هل كان الابتعاد عن الجماعة اختياريا بمحض إرادته أم قسريا لعدم اتّساق البطل مع الجماعة ؟
هكذا إذن تداخل النص الشعري لدى "الطيب بوغديري" مع جنس سردي حكائي له وظيفة حمل سيرة بطل نبيّ روى سيرته الابن والجماعة بأداة حكائية "كان" "موغلة في الماضي", وبجمل نثرية طويلة نسبيا مثل جمل قصيدة (أبي) التي يقول في أولها بنفس نثري حكائي:
"أبي بطل أيها الناس.
يستيقظ الصبح مستبسلا. ويطالعك البشر من وجهه كغزال تراوده الأسئلة" (29).
ومثل الجمل النثرية الواردة في وسط القصيدة نفسها : "خطاه"
هي الشمس حاسرة الرأس تذرع ذاك الغلاف البعيد
الذي فيه من زرقة العمر ما يجعل الشعر حقلا من الأرز, والقمر المتعالي فطائر حلوى.
وأرغفة.
ولحافا," (30)
 وهو ما يؤكّد تبدّد "سلطة الشكل الواحد المتكرر" (31)
و"إلغاء اجناسية النص والقول بتداخل النصوص" (32).
وفي ضوء ما تقدم في محور التداخل بين الخطاب الشعري والخطاب السردي السيري في تداخل نصّي وظفه الشاعر – كما رأينا – لنحت نمطين من الأبطال, بطل درامي مجاله القصيدة الدرامية المستفيدة من العناصر المسرحية، وبطل شعبي في قصيدة نثرية تستفيد من السرد الحكائي السيري في أدب السيرة الشعبية, وهما بطلان يلتقيان في نهاية الأمر.
في ضوء ذلك يمكن القول بأن البوغديري أنتج شكلا شعريا من ميزاته أنه مفتوح، يترك للقارئ حرية إعادة بنائه وإنتاجه حسب مرجعياته الثقافية وإدراكاته. ومتعدد, ومشترك مع بعض النصوص الشعرية الجديدة في توقها إلى العودة إلى الأصل، أي النثر..
الإحالات :
1و2و3و4و5) طراد الكبيسي : تحولات النص الشعري العربي من النثر إلى النثر مجلة المسار عدد مزدوج (24-25) جوان 1995 ص ص 28و39
6) "قبل رفع الستارة" ص 150
 7) المشهد الأول ص 151
 8) المشهد الأول ص 151
9) المشهد الأول ص 152
 10 المشهد الثاني ص 156
 11-12) عمر مقداد الجمني : الشعر العربي المعاصر (AR209 حولية جامعية تونس – المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر.السداسي – سبتمبر 1995/ مارس 1996).
13) "أغنية ماسح الأحذية رقم 1 ص 81
14) أغنية ماسح الأحذية رقم 1 ص 82
15) أغنية ماسح الأحذية رقم 1 ص 82
16) "حرائق تحت المطر" ص 107
 17) "حرائق تحت المطر" ص 116
 18) "دمي للعراق" ص 125
19) "دمي للعراق" ص 125
 20)ي" ص 45
 21 و 22 ) "سيرة أبي المبتورة ص 61
23و24و25) د.أحمد شمس الدين الحجاجي "مولد البطل في السيرة الشعبية "كتاب الهلال – العدد 474. أفريل 1991. ص 85-95-131.
26) "أبي" ص 45
 27 "سيرة أبي المبتورة" ص 62
 28"أبي" ص 48
29) "أبي" ص 45
 30)أبي" ص 46
 31و32) نفس المرجع (1و2و3و4و

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحياة

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا وخالٍ يشتهي عملا ً.. وذو عملٍ به ضَجِرا ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا وذو الأولاد ...