الاثنين، 11 فبراير 2013

كلمة "مصطلح" بين الصواب والخطإ

كلمة "مصطلح" بين الصواب والخطإ

د. عبد العلي الودغيري

أستاذ بكلية الآداب - جامعة محمد الخامس - الرباط

نشرت في السنوات الأخيرة تعليقات لبعض الباحثين العرب حول كلمة "مصطلح" التي شاع استعمالها عند الكثيرين، يمكن تلخيصها في ثلاث نقط:
1.    أن لفظ "مصطلح" لم يرد عند أسلافنا القدماء ولم يستخدموه، ولكنهم استخدموا لفظ "اصطلاح" بدلاً منه.
2.    أنه لم يرد في القواميس العربية القديمة، ولم يدخل قواميسنا الحديثة إلا منتصف هذا القرن (1).

3.    أن كلمة "مصطلح" من الأخطاء الشائعة التي لا يصح استعمالها، وفي ذلك يقول أحد الباحثين:" إنه لغريب حقاً أن نجد معظم الباحثين يستخدمون كلمة "مصطلح" بدلاً من "اصطلاح" ، مع أن هذه الكلمة لا تصح لغة إلا إذا اصطلحنا عليها، ولم ترد في المعجم لهذه الدلالة ولا لغيرها " إلى أن يقول: "وهكذا فإن كلمة مصطلح من الأخطاء الشائعة سماعاً، وذلك أنها لا تصح لدلالتها المستخدمة لها إلا مع حرف الجر (على)، لأن الفعل اصطلح يتعدى بها، وهذا يزيدها بعداً عن الصواب، فلابد من الرجوع إلى كلمة "اصطلاح" "(2). ويحاول هذا الباحث أن يدعم كلامه بأن القدامى إنما استخدموا ألفاظاً أخرى للدلالة على ما يدل عليه لفظ "مصطلح" اليوم منها: اصطلاح، كلمة، مفردة، مفتاح، لفظ. وهذا-كما يقول- "يوضح أن القوم كانوا على اصطلاح ولم يكونوا على مصطلح".(1)

فبالنسبة للنقطة الأولى:نقول: إن الجزم بأن لفظ "مصطلح"لم يرد عند القدماء خطأ واضح،لا شك في أنه ناتج عن افتقادنا لقاموس لغوي تاريخي يتتبع بالتدقيق مختلف المراحل التي سلكتها الألفاظ اللغوية في ظهورها وتطور استعمالها ودلالاتها عبر الحقب الزمنية والحقول المعرفية وفي مختلف النصوص وعند مختلف الكتاب والمؤلفين ومستعملي اللغة، فيقطع بذلك دابر الأحكام التي لا تقوم إلا على مجرد التخمين والتنبؤ وليس على أساس من العلم المستند على وثائق وشواهد وأدلة حاسمة،ويقدم للمجمع اللغوي ما يفيده في التعرف على تفاصيل دقيقة من تاريخه وحضارته وفكره.
وهكذا فقد ثبت بما توفَّر لدينا من أدلة استقرائية أن كلمة "مصطلح" قديمة في اللغة العربية، فقد أوردها القاشاني أو الكاشاني (كمال الدين عبد الرزاق، ت720هـ أو 730هـ) في مقدمة كتابه المطبوع تحت عنوان "اصطلاحات الصوفية" (3) حيث قال: "وكان الكلام فيه وفي شرح فصوص الحكم وتأويلات القرآن الحكيم، مبدئيا على اصطلاحات الصوفية، ولم يتعارفها أكثر أهل العلوم المنقولة والمعقولة ولم تشتهر بينهم، سألوني أن أشرحها لهم(…) فكسرت هذه الرسالة على قسمين: قسم في بيان المصطلحات ما عدا المقامات…" فذكر اللفظين معاً: الاصطلاح والمصطلح.
ومن القدامى الذين استخدموا لفظ "مصطلح" نجد العلامة ابن خلدون، وهو كذلك من علماء القرن الثامن الهجري (4)، فقد أوردها أيضاً بمعناها نفسه الذي تستعمل فيه اليوم، إذ قال في المقدمة: "الفصل الواحد والخمسون في تفسير الذوق في "مصطلح" أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم" (5). وكما استعمل ابن خلدون لفظ "المصطلح" استعمل أيضاً لفظ "الاصطلاح" وجمعه على "اصطلاحات"(6).
وقبل ابن خلدون نجد الكلمة مستعملة عند عالم آخر من مشاهير القرن الثامن الهجري، وهو المؤرخ الأديب صاحب الرسائل الديوانية المشهور القاضي شهاب الدين أحمد بن يحيى المعروف بابن فضل الله العُمَري (ت749هـ) في كتابه المعروف بعنوان:"التعريف بالمصطلح الشريف "(7) الذي خصصه صاحبه لذكر الألفاظ الاصطلاحية المستعملة في الكتابة الديوانية في عصره، والأساليب المتعارف عليها في هذا الفن، والقوانين التي تراعى في المكاتبات الصادرة عن ديوان الإنشاء، إذ كان الرجل من كتاب ديوان السلطان الناصر محمد بن قلاوون. ونحن نعلم مكانة الشخصيات التي كانت تتولى هذه المهنة في العصور المتقدمة من حيث التضلع في العلم وشمولية الثقافة وامتلاك ناصية التعبير واللغة العربية. وقد اعتمد القلقشندي (أبو العباس أحمد بن علي ت 821 هـ) اعتماداً كبيراً على كتاب ابن فضل الله العُمَري ونوه بمحاسنه  واقتدى به، بل ضمنه كله في كتابه المعروف ب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا " ومما قاله عنه:"على أن معرفة "المصطلح" هي اللازم المحتَّم والمهم المقدَّم لعموم الحاجة إليه واقتصار القاصر عليه:
إن الصنيعة لا تكون صنيعةً      
حتى يُصابَ بها طريفُ المَصْنعِ
وكان الدستور الموسوم بـ "التعريف بالمصطلح الشريف" صنعة الفاضل الألمعي والمصقع اللوذعي ملك الكتابة وإمامها، وسلطان البلاغة ومالك زمامها المقر الشهابي أحمد بن فضل الله العدوي العمري سقى الله تعالى عَهْدَهُ العِهادَ،وألبسه سوابغ الرحمةِ والرضوانِ يوم الميعاد، وهو أنفس الكتب المصنفة في هذا الباب عِقْداً وأعدلها طريقاً وأعذبها وِرْداً" (8).
ثم ألف رجل آخر اسمه ابن ناظر الجيش مؤلفاً في تنقيح "التعريف" لابن فضل الله العُمَري سماه: تثقيف التعريف في "المصطلح" الشريف، ذكره القلقشندي أيضاً وقال إن صاحبه اقتفى فيه أثر سلفه في الوضع وجرى على منواله  في التأليف "وذكر  ما فاته من "مصطلح" ما يكتب أو حدث بعد تأليفه، فاشتهر ذكره وعز وجوده" (9).
ثم طلع علينا القلقشندي نفسه بكتابه الشهير المشار  إليه، وهو "صبح الأعشى في صناعة الإنْشا "الذي يظهر أنه ألف حوالي سنة 800هـ (10)، فقدم بين يدي كتابه بمقدمة ذكر فيها كلمة "مصطلح" مرات عديدة منها ما سبق  ذكره، ومنها أيضاً قوله : "وكيفما كان، فالاقتصار على معرفة "المصطلح" قصور، والإضراب عن تعرف أصول الصنعة ضعف همة وفتور"، ومنها أخيراً قوله يذكر كتابه :" فشرعت في ذلك بعد أن استخرت الله سبحانه وتعالى، وما خاب من استخار، وراجعت أهل المشورة وما ندم من استشار، موضحاً ما أبهماه بتبيين الأمثلة، مع قرب المأخذ وحسن التأليف، متبرعاً بأمور زائدة على "مصطلح الشريف" لا يسع الكاتب جهلها".
ومن المؤلفات التي حفظ لنا التاريخ عناوينها في علم الترسل وصناعة الإنشاء، كتاب ذكره حاجي خليفة في كشفه بعنوان: "مصطلح الكتاب وبلغاء الدواوين والحساب" في علم الترسل؛ ولكنه لم يذكر مؤلفه.
هذا عن استعمال كلمة "مصطلح" في الدلالة على الألفاظ الدائرة في صناعة الإنشاء والكتابة الديوانية، ومن يرجع إلى كتابي "التعريف" و "صبح الأعشى…" سيجد بلا شك معجماً متكاملاً من الألفاظ الاصطلاحية التي استعملها العرب في هذه الصناعة الأدبية الرفيعة، وهي لا تزال في حاجة إلى دراسة واهتمام.
ويتلخص من هذا أن لفظ "مصطلح" كان رائجاً على الأقل خلال القرن الثامن الهجري على يد بعض الصوفية والمؤرخين وكتاب دواوين الإنشاء الذين سموا به بعض مؤلفاتهم وذكروه في ثنايا كتبهم.
ثم استعمل اللفظ منذ القديم أيضاً في مجال معرفي آخر هو مجال "علوم الحديث"، فمن المعلوم أن من بين علوم الحديث النبوي الشريف علم قديم سمي علم "مصطلح الحديث" وسمي أحياناً بعلم "اصطلاح الحديث" ويتناول فيه أصحابه " مجموعة القواعد والمسائل التي يُعرَفُ بها حال الراوي من حيث القبول والرد، وأقسام الحديث الصحيح والحسن والضعيف وطرق التحمل  والأداء والجرح والتعديل" (11). والأسماء التي أطلقوها على كل قسم من هذه الأقسام من حسن، وضعيف، وصحيح، ومتواتر، ومبتور، ومُعْضَل، ومرسل، ومسلسل… وهلم جرا من الألفاظ المعروفة في هذا العلم التي  يسمونها أيضاً "ألقاب الحديث" كما يسمونها "اصطلاحات" و"مصطلحات". ومن أشهر المتون العلمية في هذا الفن:
-  منظومة  أحمد بن فرج الإشبيلي (من ق7هـ) في مصطلح الحديث التي أولها:
غرامي "صحيح" والرَّجَا فيك مُعْضَلُ
وحزني ودمعي "مُرْسَل" و"مسلسلُ
- و"المقدمة في علوم الحديث لابن الصلاح (تقي الدين أبي عمرو الشهرزوري ت 643هـ) المعروفة بمقدمة  ابن الصلاح (12)، و" الألفية في مصطلح الحديث" للزين العراقي (زين الدين عبد الرحيم بن الحسين ت806هـ) وهي عبارة عن نظم لمقدمة ابن الصلاح.
ولعل أقدم كتاب من التراث الخاص بهذا العلم جاء يحمل في عنوانه لفظ "مصطلح" هو كتاب: "نخبة الفِكر في مصطلح أهل الأثر"(13) للحافظ ابن حجر العسقلاني (أحمد بن علي ت 852هـ). وفي وقت معاصر له تقريباً ظهر كتاب آخر يحمل في عنوانه لفظ "اصطلاح"وهو الكتاب المعروف بـ "محاسن الإصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح" للسراج البُلْقيني (أبي حفص عمر بن رسلان بن نصير الكناني المصري        ت 805هـ). وبذلك يمكننا أن نستنتج مبدئياً أن لفظي "الاصطلاح" و"المصطلح" قد شاع استعمالهما في هذا الحقل من العلوم الإسلامية وهو علم الحديث وألقابه في زمن متقارب (ما بين منتصف القرن الثامن ومنتصف القرن التاسع الهجريين).
وقد أصبح لكتاب "نخبة الفِكر في مصطلح أهل الأثر" للعسقلاني شهرة واسعة، فلذلك وضعت عليه شروح كثيرة ذكر منها"بروكلمان"ثلاثة وعشرين     شرحاً (14). ومن هذه المؤلفات التي جاءت بعد "نخبة الفكر" تحمل في عناوينها لفظ "مصطلح" أو جمعها "مصطلحات" نذكر ما يلي:


  • "شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر" لجمال الدين أبي البركات محمد بن موسى بن علي المكي الشافعي 'ت 823هـ) ذكره في : "إيضاح المكنون".
  • " عنوان معاني نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر" لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن صدقة المصري (15) (ت905هـ).
  • " سلك الدرر في مصطلح أهل الأثر"لرضي الدين محمد بن محمد الغَزِّي (ت 935 هـ).ذكره "بروكلمان" (16).
  • "شرحُ شرحِ نخبة الفكر في مصطلح الحديث" (17) لعلي بن سلطان الهروي القاري (ت 1014هـ) ذكره في "كشف الظنون " بعنوان:مصطلحات أهل الأثر على شرح نخبة الفكر".
  • " قضاء الوطر من نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر من مصطلح أهل الأثر" (18)، لبرهان الدين إبراهيم  بن إبراهيم اللقاني (ت 1041هـ).
  • " مصطلحات أهل الأثر" لعبد الله بن حسين خاطر العدوي المالكي فرغ من تأليفه سنة 1309هـ، وطبع بالقاهرة سنة 1323هـ (19).
  • "قواعد النظر على مصطلح أهل الأثر" لأبي إبراهيم محمد بن إسماعيل ابن صلاح الصنعاني (20).
فهذه أمثلة من المؤلفات الحديثية القديمة التي حملت في عناوينها لفظ "مصطلح" بالمفرد أو "مصطلحات" بالجمع.
وإذا تركنا علم الحديث، وجدنا هذا اللفظ مستعملاً  في مجالات أخرى كثيرة منها علوم القراءات، والجدل، وصناعة الشعر، واللغة… وهلم جرا،وهذه أمثلة من عناوين الكتب المؤلفة في مختلف العلوم:

حات شاه جهاني في اللغة" لمحمد أحسن البلكرامي الهندي، ذكره في "الإيضاح".
ونستنتج من كل ما سبق أن لفظ "مصطلح" كان معروفا متداولا جدا بين القدماء الذين استخدموه في مجالات وعلوم مختلفة، منها التصوف والتاريخ، وصناعة الإنشاء، وعلوم الحديث، والقراءات، وصناعة الشعر، واللغة، والمناظرة (الجدل)… وهلم جرا. وقد تتبعنا آثاره إلى حدود القرن الثامن الهجري، وهو العصر الذي وضع فيه مجد الدين الفيروزبادي  قاموسه المحيط وهو أشهر قواميس اللغة العربية العامة الذي ظهر بعد "لسان العرب" لابن منظور المتوفى في بداية القرن الثامن(711هـ).، وهذا يعني أن شيوع استعمال لفظ "المصطلح" كان متزامنا ومتقاربا مع ظهور اثنين من أكبر قواميسنا التراثية وأشهرها وهما "القاموس" و"اللسان"، وليس استعماله  وليد العصر الحديث كما يظن الكثيرون.
وقد استشهد أحد الباحثين ممن ادعوا عدم ورود لفظ "مصطلح" عند القدماء، بكتاب الكاشاني (من صوفية القرن 8هـ) المسمى "اصطلاحات الصوفية"، وكتاب "التهانوي" (من القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي) الذي أسماه صاحبه: "كشاف اصطلاحات الفنون"، متخذا من هذين العنوانين  حجة على أن القدماء كانوا يستعملون لفظ "اصطلاح" وليس لفظ "مصطلح". ولو تريث هذا الباحث الكريم قليلا حتى يقرأ بضعة أسطر من مقدمة هذين الكتابين لوجد أن حجته منقلبة عليه، فما ورد فيهما دليل على قدم استعمال كلمة "مصطلح" لا العكس. وقد أوردنا فيما سبق نص كلام الكاشاني الذي استعمل فيه هذا اللفظ بإزاء اللفظ الآخر وهو "اصطلاح"، ونورد الآن نص كلام التهانوي في مقدمته  حيث قال: " فلما فرغت من تحصيل العلوم العربية والشرعية، وشمَّرت على اقتناء ذخائر العلوم الحكمية والفلسفية (…) فكشفها الله تعالى عليّ، فاقتبست منها "المصطلحات" أوان المطالعة وسطرتها على حدة، كل باب يليق به على ترتيب حروف التهجي"، فالتهانوي استعمل اللفظين معاً: "الاصطلاحات" و"المصطلحات"، وكثير ممن قبله من العلماء كانوا يستعملون اللفظين معاً، منهم ابن خلدون الذي ذكر " المصطلح " في مواضع و" الاصطلاح "  في    أخرى (22)، ومنهم الكاشاني في "اصطلاحات الصوفية" وابن فضل الله العمري في "المصطلح الشريف" اللذان ذكرا "المصطلح" في العنوان و "الاصطلاح" في ثنايا المقدمة.
نعم، يمكن أن نقول إن لفظ "اصطلاح" ربما كان أقدم ظهوراً ورواجاً في تاريخ اللغة العربية من لفظ "مصطلح"، وذلك على الأقل ما تؤكده لنا نتائج الرصد الذي قمنا به لحد الآن لمجموعة من النصوص التراثية. فقد وجدنا لفظ "اصطلاح" مستعملاً منذ القرن الثالث الهجري في كتاب المقتضب (23) لأبي العباس المبرد (ت280هـ)، ووجدناه في القرن الرابع الهجري في كتابات كل من ابن جني(24) (ت 392هـ)، وابن فارس (25)، والخوارزمي(26) (أحمد بن علي ت 395هـ).
ثم توالى استعماله بعد ذلك طوال العصور اللاحقة (27). وكان قد أصبح من المتداول في كتب العلوم الإسلامية   – وذلك منذ زمن طويل- قولهم في تعريف ألفاظ هذه العلوم: "لغة كذا وفي الاصطلاح كذا".
لكن وجود لفظ "اصطلاح" مستعملاً في فترة سابقة قبل لفظ "مصطلح" لا يبيح للقائلين أن يقولوا إن هذا الأخير لم يرد استعماله عند أسلافنا القدماء.
وخلاصة القول في هذه النقطة: أن أسلافنا القدامى كانوا على "مصطلح" و"اصطلاح" معاً. ولم يكونوا على " اصطلاح "  فقط كما قال الدكتور يحيى جبر، أي أنهم عرفوا اللفظين معاً واستعملوهما منذ قرون، وكان كل منهما يدل على ما يدل عليه الآخر، إلا أن الظاهر من النصوص التي اطلعنا عليها أن أحدهما وهو "الاصطلاح" كان أسبق ظهوراً من الثاني بحقبة زمنية معينة.
(2)
أما النقطة الثانية: وهي قول من قال إن القواميس العربية القديمة لم تورد كلمة "مصطلح"، فهذا صحيح، إذ لم تظهر هذه الكلمة في أي قاموس قديم من القواميس المشهورة ابتداء من "عين" الخليل إلى"تاج" الزبيدي. وهذا ما جعل المستشرق الهولندي "دوزي" يجعلها من مستدركاته على القواميس العربية القديمة، بل حتى أشهر القواميس الحديثة والمعاصرة كـ "محيط المحيط " للبستاني (1870م)، و"منجد اليسوعي" (1908م) ، و"المعجم الوسيط" الذي صدرت طبعته الثالثة سنة 1985م، لم تكترث بوجود هذه الكلمة. وربما كان أول قاموس عربي معاصر أدخلها إلى مدونته هو كتاب "المعجم الوجيز"، الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1980م، ثم تبعه "المعجم العربي الأساسي" الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم سنة 1988م.
فما سبب ذلك يا ترى؟ إن الجواب بسيط: فمن المعروف في ضوابط القواميس العربية وقواعدها المقررة- ولا سيما القديمة منها- عدم إيراد صيغ المشتقات المطردة، وكل الكلمات التي يمكن توليدها بآلية قياسية وبقواعد صرفية معروفة، إلا في الحالات الشاذة أو عند الضرورة والاقتضاء، ولذلك اعتبرت القواميس اللغوية من هذه الناحية، وفي نظر بعض اللسانيين المحدثين، بمثابة ذيل لقواعد النحو والصرف وملحق بها، أو بمثابة قائمة طويلة من الشواذ التي لا تضبطها قاعدة. أما الأمور التي تضبطها القواعد المطردة فليس من المفروض أن يكون لها مكان في قواميس اللغة. ولو عملت هذه القواميس على إيراد كل المشتقات والصيغ القياسية من كل مادة معجمية، لأصبح حجمها أضعافاً مضاعفة لما هي عليه الآن، ولذلك نرى أن القواميس العربية تستغني مثلاً عن ذكر أسماء الفاعلين والمفعولين القياسية (28) لأن توليد الصيغ الخاصة بهما يخضع لقاعدة صرفية صارمة مطردة، وهي أن أسماء الفاعلين من الثلاثي تأتي على وزن "فاعل" ومن غير الثلاثي على صيغة المضارع بإبدال حرف المضارعة ميما مضمومة وكسر ما قبل الآخر، وأسماء المفعولين من الثلاثي تأتي على وزن "مفعول" ومن غير الثلاثي على صيغة المضارع بإبدال حرف المضارعة ميما مضمومة وفتح ما قبل الأخير.
فبهذه القاعدة التوليدية المشهورة استغنت القواميس عن ذكر كلمة "مصطلح" التي جاءت على صيغة مفعول من غير الثلاثي. وعن ذكر قائمة طويلة من أسماء الفاعلين والمفعولين القياسية الأخرى المستعملة أو المحتمل استعمالها في المعجم العربي. وكذلك استغنت عن ذكر كثير من أسماء الزمان والمكان والآلة والمرة والهيئة والنسبة والتصغير وغيرها من الأمور التي لها صيغ مضبوطة، وقواعد معروفة تحكمها، ومنها المصادر القياسية الأصلية للأفعال الزائدة على ثلاثة أحرف مثل: أفعَلَ، وفَعَّل،  وتفاعل، وافتعل، وانفعل، واستفعل… فلم تورد منها إلا ما كان شاذاً أو لضرورة تقتضيه،أو ذكر على جهة التسامح والتساهل (29).
ولهذا السبب استغنت القواميس عن ذكر كلمة"اصطلاح" أيضاً فلم يرد لها ذكر في "الصحاح"     و" المصباح" و "اللسان" و "القاموس المحيط" وغيرها من القواميس القديمة باعتبارها مصدراً قياسياً على وزن (افتعل يفتعل افتعالاً).
ولعل أول قاموس عربي أورد لفظ "اصطلاح" هو "تاج العروس" (ق 13هـ)، وإنما فعل الزَّبيدي ذلك لأن من عادته أن ينقل كلام شيخه ابن الطيّب الفاسي في حاشيته على القاموس بحذافيره. فلما قال ابن الطيب (12هـ) في مادة "صلح": "واصطلاحاً: اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص… الخ"، نقل ذلك الزَّبيدي من باب الإحاطة والاحتياط لا غير، أو على اعتبار أن لفظ "اصطلاح" أصبح بغلبة الاستعمال اسماً من باب التسمية بالمصدر.
وبهذا يتضح أولاً: أن إهمال القواميس العربية للفظ "مصطلح" داخل في باب إهمالها للصيغ القياسية المطردة، وليس فيه دليل على أن الكلمة غير صحيحة أو غير فصيحة أو لم تكن مستعملة قديماً.  اللهم إذا كنا نقصد بالقديم عصر التدوين أو ما قبله، وكنا نحتكم في مفهوم (الفصاحة) إلى معايير بعض الأقدمين من فقهاء  اللغة الذين أخرجوا من حيز الفصاحة كل لفظ أو استعمال جاء بعد عصر التدوين، وحتى في هذه الحالة سيكون علينا أن نحكم على لفظ "اصطلاح" بالحكم نفسه، لأنه لم يرد بدوره في القرآن والشعر الجاهلي ولغة أهل البادية المحتج بها.
ويتضح ثانياً: أن القواميس القديمة، كما أهملت لفظ "مصطلح" أهملت كذلك لفظ " اصطلاح"، لأن كلا منهما صيغة مقيسة. وقد أشرت أعلاه إلى أن كلمة "اصطلاح" بدورها لم تدخل إلى مدونة القواميس العربية إلا ابتداء من القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) على يد صاحب "تاج العروس" فتبعه بعد ذلك البستاني في "محيط المحيط" وغيره من القواميس الحديثة والمعاصرة. فلماذا لاحظوا غياب "المصطلح" ولم يلاحظوا غياب "الاصطلاح"؟ وهل كان عدم ظهور هذا الأخير في القواميس التراثية هو بدوره دالاً على أن أسلافنا القدامى لم يعرفوا هذا اللفظ ولم يستخدموه مع أنه معروف في كتبهم الأخرى غير القواميس منذ القرن الثالث الهجري على الأقل؟ وهل كل صيغة من الصيغ الصرفية لم ترد في هذه القواميس إلا ويقال عنها مثل ذلك؟.
(3)
أما النقطة الثالثة: وهي القول بأن استعمال كلمة"مصطلح" خطأ شائع إذ لا تصح إلا مع حرف الجر "على"، لأن الفعل اصطلح يتعدى بها وإذن "فلا بد من الرجوع إلى كلمة "اصطلاح"، والتخلي عن استعمال كلمة "مصطلح" "، فالجواب عنه ما يلي:
إن القصد من هذا الكلام هو أن كلمة "مصطلح" عبارة عن صيغة لاسم المفعول من الفعل "اصطلح"، وهو لازم، واسم المفعول إذا صيغ من فعل لازم احتاج إلى نائب فاعل يكون هو الجار والمجرور أو الظرف أو المصدر، كما تنص على ذلك القواعد المعروفة. وإذن كما وجب أن نقول: "اصطلحوا عليه" وجب أن نقول: " مصطلح عليه"؛ وإلا كان الكلام لحنا وخطأ.
1.    واستناداً إلى هذه القاعدة كان ابن يعيش في شرحه للمفصل قد اعترض على قول الزمخشري : "القسم الرابع في المشترك" بأن قال: "وفي تسميته بالمشترك نظر، لأن المشترك اسم مفعول وفعله اشترك، ولا مفعول له إذا كان لازماً. ولا يبنى من اللازم فعل المفعول إلا أن يكون معه ما يقوم مقام الفاعل من جار ومجرور أو ظرف أو مصدر" (30). ولكن ابن يعيش عاد فَخَرَّج كلام الزمخشري وبحث عن مُسوِّغه الذي يجيز استعماله فقال: "وأحملُ ما يُحمَلُ عليه أن يكون أراد المشترك فيه، وحذف حرف الجر وأسند اسم المفعول إلى الضمير فصار مرفوعاً به" (31).
وأما الشيخ البَنَّاني (عبد الرحمان بن جاد الله البنَّاني ت 1198هـ) في حاشيته على شرح المحلي على جمع الجوامع لابن السبكي فقد خرَّج كلام المصنف بأن قال: " فمشترك: أصله مشترك فيه حذف (فيه) تخفيفاً لكثرة استعمال ولكونه صار لقبا"(32). فبيَّن أن العلة علتان:
الأولى: الحذف للتخفيف نتيجة كثرة الاستعمال.
والثانية: للتسمية به، أي كونه أصبح اسماً أو لقباً أو علماً يُسمَّى به بالغلبة.
وإذن، لماذا لا يحمل لفظ "المصطلح" – وقد استعمله فصحاء القدماء كما رأينا في النصوص السابقة بدون اعتماد على حرف الجر- على لفظ " المشترك"، الذي هو من الألفاظ القديمة الواردة بكثرة في كتب اللغة وأصول الفقه؟ أي لماذا لا يكون هو أيضاً من الكلمات التي لم تعد تحتاج لحرف الجر إما تخفيفاً ونتيجة لكثرة الاستعمال، وإما لأنه أصبح عَلَماً بالغلبة على مسمَّى به؟
هذا، إذا أصررنا على أن لفظ "مصطلح" هو اسم مفعول من فعل "اصطلح"، والمعروف في كتب القواعد الصرفية أن صيغة اسم المفعول المأخوذة مما فوق الثلاثي، ليست خاصة باسم المفعول وحده، بل هي صيغة يشترك فيها كل من اسم الزمان واسم المكان واسم المفعول والمصدر الميمي. وإذا كانت كلمة  "مصطلح" لا يصح اعتبارها اسما للمكان أو الزمان، فإنها صالحة لتكون مصدراً ميميا، والمصدر الميمي يصاغ من غير الثلاثي على وزن اسم المفعول تماماً، وأمثلته: مُعْتَقَد، ومُعْتَمَد، ومُنْقَلَب (33)،ومُدْخَل،ومُخْرَج(34)، ومُرْسَى (35)، ومُجْرَى، التي تفيد معنى المصدرية أي الاعتقاد، والاعتماد، والانقلاب، والإدخال، والإخراج،، والإرساء، والإجراء. وكذلك  كلمة "مصطلح"، فهي لا تختلف عنها، لأنها متضمنة معنى "اصطلاح" أي متضمنة معنى المصدر الأصلي، وهذا ما جعل عدداً من العلماء القدامى يستعملون "المصطلح" تارة و"الاصطلاح" أخرى، لأن كلا منهما متضمن لمعنى الآخر. وهذا الرأي تبناه الدكتور محمد فهمي حجازي فقال: "كلمة "المصطلح" في العربية: مصدر ميمي للفعل "اصطلح" من المادة "صلح" " (36).
ويتلخص مما سبق،أن لكلمة (مصطلح) استعمالين بمعنيين مختلفين كلاهما جائز بقيوده الخاصة:
- فهو إما أن يستعمل  بمعنى اسم المفعول، فتكون له شروط اسم المفعول، وإما أن يستعمل بمعنى المصدر الميمي فيعامل معاملة المصدر، وفي الأول يحتاج إلى حرف الجر وفي الثاني لا يحتاج؛ لأن كلا من المصدر الميمي واسمي الزمان والمكان التي تشترك في صيغة واحدة لا تحتاج إلى حروف جر تعتمد عليها ولو كانت من أفعال لازمة، فلذلك نقول: مُنْقَلَب، وملتقى، ومنتهى، ومجتمع، ومتكأ، ومنعطف، ومنتصف، ومُنْسَكب، ومُنْصَرف… وهلم جرا.
وعلى هذا الاستعمال الثاني يمكنك القول:
أ. الفعل مصطلح من مصطلحات النحاة (أي اصطلاح من اصطلاحاتهم).
ب. الصلاة في اللغة الدعاء وفي المصطلح الشرعي عبادة مخصوصة (أي في الاصطلاح الشرعي).
ج. هذا كشاف بمصطلحات العلوم (أي باصطلاحاتهم).
فحيثما جاز لك وضع كلمة (اصطلاح) مكان كلمة (مصطلح)، جاز لك استعمال هذه الأخيرة بدون حرف جر، لأنها إذ ذاك تكون قد استعملت استعمال المصدر الميمي، وهو ذلك الاستعمال الذي وردت به النصوص الكثيرة من أقوال القدماء التي تتبعناها في الفقرات السابقة.
أما على الاستعمال الأول حيث يكون لفظ (مصطلح) بمعنى اسم المفعول، فتقول:
د- هذا لفظ مصطلح عليه.
كما تقول: هذا رأي متفق عليه.
ولا ينبغي أن تقول:
هـ- هذا لفظ مصطلح.
كما لا ينبغي لك أن تقول: (هذا رأي متفق) بفتح الفاء، إلا بعد الإتيان بحرف جر ولو تقديراً كما فعل ابن يعيش والبنَّاني في تخريجهما للفظ (المشترك)، ذلك أن لفظ (مصطلح) في هذا التركيب الأخير ونحوه لا يتضمن معنى المصدرية إذ لا نستطيع أن نقول: (هذا لفظ اصطلاح)، وتأتي بهذه الجملة مكان الجملة (هـ)؛ فقد تغير المعنى ولذلك وجب تغيير التركيب.
وعلى هذا الوجه من استعمال كلمة(مصطلح) استعمال اسم المفعول، ورد قول ابن عقيل في شرح الألفية: "الكلام المصطلح عليه عند النحاة عبارة عن اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها" (37).، فها هنا لا يمكنك أيضاً استبدال كلمة (الاصطلاح) بكلمة (المصطلح)، لأنها لم تستعمل هنا استعمال المصدر الميمي.
فاللفظ إذن،له استخدامان مختلفان كما قلت، كلاهما جائز في سياقه وبشروطه التركيبية والدلالية، والخلط بينهما لا يجوز، والاقتصار على القول بأحدهما قصور. والله أعلم.

الهوامـــش


1.    أحمد شفيق الخطيب: "حول توحيد المصطلحات العلمية، مجلة (اللسان العربي)، عدد 44، سنة 1997م.
2.    د. يحيى عبد الرؤوف جبر: الاصطلاح: مصادره ومشاكله وطرق توليده، مجلة: اللسان العربي/ العدد 36، سنة 1992م.
3.    منشورات الهيئة العامة للكتاب، مصر، تحقيق د. كمال إبراهيم جعفر، 1981م.
4.    فرغ من كتابه: "المقدمة" سنة 779هـ وتوفي سنة 808هـ.
5.    مقدمة ابن خلدون طبعة دار الفكر، بيروت، 1981، ص475. وانظر أيضا: R. DOZY SUPPLEMENT AUX DICTIONNAIRES ARABES. ، مادة "صلح" حيث نقل عن ابن خلدون  نصاً آخر استعمل فيه لفظ "مصطلح".
6.    نفسه: ص 559.
7.    الكتاب مطبوع بتحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، سنة 1988، وطبع من قبل بالقاهرة، سنة 1312هـ.
8.    صبح الأعشى: المقدمة، طبعة مصورة عن الطبعة الأميرية، إصدار وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر.
9.    نفسه.
10.    انظر مقدمة فهارس كتاب صبح الأعشى، ص2، بقلم د. سعيد عبد الفتاح عاشور، عالم الكتب، القاهرة، سنة 1970م.
11.    محمد عجاج الخطيب . أصول الحديث: علومه ومصطلحه، ، دار الفكر، لبنان، 1997م، ص9.
12.    سماها صاحبها: "كتاب معرفة أنواع علم الحديث": وعرفت بمقدمة ابن الصلاح. انظر مقدمة الكتاب بتحقيق د. عائشة عبد الرحمان، دار المعارف، مصر، سلسلة ذخائر العرب، 1990م.
13.    من طبعاته بمصر: طبعة الاستقامة 1368هـ. وطبعة مصطفى الحلبي، 1392هـ.
14.    انظر تاريخ الأدب العربي، ترجمة د. عبد الحليم النجار، وقد أوصل أحد الباحثين، لائحة أسماء الشروح والحواشي والمختصرات والأنظام التي وضعت على نخبة الفكر، إلى 38 عنواناً.( انظر: مقدمة تحقيق: شرح نخبة الفكر لعلى القاري، تحقيق محمد نزاز تميم وهيثم نزار تميم).
15.    انظر: كشف الظنون، ص1936، وإيضاح المكنون، ص430 و621.
16.    تاريخ الأدب العربي،6/210، ترجمة عبد الحليم النجار، دار المعارف بمصر، 1977م.
17.    مطبوع بتحقيق محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، بيروت (بدون تاريخ).
18.    انظر: إيضاح المكنون: ص234، وهدية العارفين، ص30.
19.    بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، 6/207.
20.    انظر: مقدمة تحقيق: شرحُ شرحِ نخبةِ الفكرِ، لمؤلفه علي بن سلطان القاري، تحقيق محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، ط. شركة دار الأرقم بن الأرقم، بيروت (بدون تاريخ)، ص116.
21.    ورد عند حاجي خليفة بصيغة (الثلاثة عشر) وهو خطأ.
22.    انظر: مقدمة ابن خلدون؛ ص 475 (مصطلح)، ص559 (اصطلاح)، ط. دار الفكر، بيروت، 1981م.
23.    قال صاحب المقتضب: "فهذا الذي ذكرت لك من أن النحويين جروا على الاصطلاح…" ج3، ص123، وانظر، ص114.
24.    انظر الخصائص: "باب القول على أصل اللغة أ إلهام هي أم إصلاح؟.
25.    انظر: الصاحبي في فقه اللغة، باب القول على لغة العرب أ توقيف أم اصطلاح؟.
26.    انظر مفاتيح العلوم، قال في المقدمة: "جامعاً مفاتيح العلوم وأوائل الصناعات متضمناً ما بين كل طبقة من العلماء من المواصفات والاصطلاحات…".
27.    من الأمثلة على ذلك أن فخر الدين الرازي (ق6هـ) استعمله كثيرا في كتابه 'المحصول" في علم الأصول"، والبُلْقيني (ق8هـ) استعمله في عنوان كتابه: " محاسن الاصطلاح" والقزويني (ق8هـ) في "الإيضاح"، وابن خلدون (ق8هـ) في "المقدمة"، والجرجاني (ق9 هـ) في "التعريفات"، وابي البقاء (ق 11هـ) في "الكليات"، وابن الطيب الشرقي الفاسي (ق 12هـ) في "حاشية القاموس" (مادة صلح)، والتهاوني (ق12هـ) في "الكليات"، والزبيدي (ق13هـ) في "تاج العروس"… الخ.
28.    وقد أوضحت اللجنة التي أشرفت على تحرير "المعجم الوسيط" هذه النقطة بالذات فقالت: " أما أسماء الفاعلين والمفعولين فذكرت [ أي اللجنة] مع الفعل ما رأت ضرورة النص عليه لخفائه أو لتفريع بعض المعاني عليه "، انظر مقدمة "المعجم الوسيط".
29.    وعلى ذلك جاء في مقدمة "المنجد في اللغة لليسوعي قوله: "ولا بد لطالب اللغة العربية أن يكون متضلّعاً في قواعد الصرف وأحكامه حتى يكون على أمن من الخطأ في استعمال ما جرت العادة في إهماله من المقيسات. فما كان منها كاسم  المرة والنوع ومصادر ما فوق الثلاثي لم أذكرها إلا استئناساً. وكثيراً ما أغفلتها لعلم المطالع بطريقة أخذها".
30.    شرح المفصل ، 6/80، ط. المنيرية  بمصر.
31.    نفسه.
32.    حاشية البَنَّاني على شرح شمس الدين المحلي على متن جمع الجوامع، دار الفكر، بيروت، (بدون تاريخ) ج1، ص276.
33.    قال تعالى:{ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} (الشعراء:222).
34.    قال تعالى: { وقال ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً }   (الإسراء: 80).
35.    قال تعالى: { باسم الله مجراها ومرساها} (هود: 41)، وقال: {يسألونك عن الساعة أيَّان مرساها}   (النازعات: 42).
36.    انظر كتابه: الأسس اللغوية لعلم المصطلح، مكتبة غريب، مصر 1993م، ص 7.
37.    شرح ابن عقيل (ت 769هـ) باب (الكلام وما يتألف منه).

السبت، 9 فبراير 2013

مسابقة في تركيا لأفضل أذان بأصوات تقشعر لها الأبدان

مسابقة في تركيا لأفضل أذان بأصوات تقشعر لها الأبدان




المجاكرة او المنافسة الشريفة فى رفع الأذان قامت تركيا بأحيائها عبر مسابقة فى خير الافعال وهى اقامة الاذان، بأصوات  تقشعر لها الأبدان ، اسمعها عبر "موقع اليوتيوب".
وقد استمرت المجاكرة وامتدت طريقة هذا الأذان قرون منذ عصر الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه , واستمرت هذه الطريقة في الأذان في الحرمين الشريفين إلى أن تم إلغائها في مطلع العام 1400هـ .. ومازالت طريقة هذا الأذان مستمرة في أغلب مساجد تركيا وغيرها من البلدان .

وكان بعض المؤذنين في الحرمين الشريفين وغيرها من المساجد الكبير يتنافسون في الأذان بما يسمى ” المجاكرة “وهي المنافسة الشريفة في الأذان من مآذن الحرمين لكبار المؤذنين في الحرمين الشريفين . وفي كل فرض يؤذن من أربعة إلى خمسة مؤذنين وكل منهم يؤذن من منارة الحرم ..

الجمعة، 1 فبراير 2013

التداخل النصّي والتعدّدية الصوّتية

التداخل النصّي والتعدّدية الصوّتية
في مجموعة (حرائق تحت المطر) للشاعر:
الطيب بوغديري
ميزوني محمد البنّاني
يقول "النهشلي" أحد نقاد الأدب العربي ومؤرخيه القدماء في كتابه (الممتع في علم الشعر) : (قال بعض علماء العربية : أصل الكلام منثور. ثم تعقب العرب ذلك...)(1) وقال : (لما رأت العرب المنثور يندّ عليهم, وينفلت من أيديهم, ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم, تدبروا الأوزان والأعاريض, فأخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستويا)(2) "ورأوه باقيا على ممر الأيام, فألفوا ذلك وسموه شعرا"(3) فإن صحّ "أن النص الشعري العربي متولد عن النص النثري"(4) فإن ما نشاهده في العصر الحديث من تداخل بين الأجناس الأدبية في النص الشعري إنما هو خروج عن (النص – الأنموذج) وعودة إلى الأصل (النثر) من خلال ما أحدثه الشعر الحديث "من تغييرات جديدة في بنية النص الشكلية والدلالية, كان أبرزها – دون شك – تجربة الشعر الحر التي كان من أبرز نتائجها :
أولا : إلغاء سلطة الشكل الواحد المتكرر, وتعدد الشكول.
ثانيا : إلغاء اجناسية النصّ والقول بتداخل النصوص.
ثالثا : إلغاء فكرة النصّ المغلق, وإعادة تشكيل العلاقة بين القارئ والنص من خلال ما دعي بالنص المفتوح"(5).
 هذه العودة التي أباحث التداخل الحاصل في نسيج النصّ الشعري الحديث, سوف تكون لنا مدخلا إلى الحديث عن سقوط الحواجز بين الأجناس الأدبية وتداخل ضروب الخطاب وتعددية الأصوات في المجموعة الشعرية (حرائق تحت المطر) للشاعر التونسي (الطيب البوغديري) أستاذ المسرح في المعاهد الثانوية
وهي مجموعة صادرة سنة 1988 عن دار الحرية للطباعة ببغداد في 167 صفحة من الحجم المتوسط وتمثل باكورة إنتاج "البوغديري". نشرت مجلة "الطليعة الأدبية" والجرائد اليومية والأسبوعية العراقية جل قصائدها. وأثارت القصيدة المطولة "حرائق تحت المطر" التي مهر بها كتابه هذا عديد القراءات أثناء دراسته الجامعية ببغداد. فما هي وظيفة التداخل النصي والتعددية الصوتية في هذه المجموعة الشعرية ؟
لا يخفي النصّ الشعري في مجموعة (حرائق تحت المطر) تداخله مع نصوص سردية مختلفة مثل المسرح والقصة وأدب السيرة الشعبية, بل نراه منذ البدء يستعير من المسرح مفرداته فيطلق على إحدى قصائد الديوان عنوان "مشهدان" وتحت عنوان فرعي أول هو " قبل رفع الستارة" يمهد للإطار الزمكاني الذي ستدور فيه الأحداث كما تفعل كتب الأدب المسرحي قائلا :
" هناك
 تموت الفصول
 وأنت تحث خطاك
إلى مدن المستحيل" (6)
إنه مكان قصي يدل على بعده اسم الإشارة "هناك" في زمن مفتوح على موت الفصول والجري خلف المدن المستحيلة.. إنه إطار مكابدة وصراع ضد الموت والنسيان والمستحيل.
بعدها يرفع الشاعر "ستارة" المسرح ليضعنا من خلال قصيدة المشهد الأول أمام الجندي الأول :
" جندي 1 :
أنا, هنا
أقاتل الغربان دونما
وهن
دمي على الحدود شوكة
وأخضر في قلبي
الوطن". (7)
إنه صوت "الجبدي1" وهو يصرخ مصارعا "الغربان" بكل ما تعنيه من شؤم وسواد ورداءة.. يصارعها على "الثغور" فيسيل دمه على الحدود نداء للوطن الذي يهدده العدو وتضحية من أجل أن يبقى دائما مخضرّا. فللقضاء على اللون الأسود رمز المعتدي, لا بد من اللون الأحمر رمز التضحية الذي يحيل الوطن إلى اخضرار في القلب كاخضرار النبتة المرتوية.. لا بد من دماء تبذل لكي يخضرّ الوطن.
وما يكاد "الجندي 1" ينهي كلامه حتى يخرج لنا من بين السطور صوت تحت عنوان فرعي ثان" ما غنته الساقية للجندي رقم 2":
" غنّ
 وكن, هنا
فإنني, والشمس والضباب والسماء والجبال كلها معك.
غنّ
فإن الربّ يعشق الصلاة من فمك" (8)
إنه صوت الساقية, تبشر الجندي رقم "2" بمباركة الشمس والضباب والسماء والجبال لتضحيته بنفسه. فغناؤه صلاة يعشقها "الربّ".
صوت آخر تحت عنوان فرعي "ثالث" "راقصة تنادي" ينبعث محتفلا هو الآخر بالجندي داعيا إياه إلى الإقبال قائلا :
" تعال واشتبك
معي
لا ترتبك
عاشقة أنا وأطلع الأعشاب عندما تموت
من دمك" (9).

إنها تعده بالانبعاث, بعد الاشتباك, فالموت من أجل الوطن ولادة جديدة وبذرة تطلع من الدم – تطلعها عاشقة – فتصبح عشبا أو شجرة. وشجرة، شجرة تتكون غابة تظلل الوطن.
وفي قصيد "المشهد الثاني" يطالعنا عنوان فرعي أول يحمل "ما روي عن الجندي رقم 2 بعد استشهاده" يحيل علينا في آخر الأبيات صوت العصافير:
(تجيء العصافير مثقلة بالتوجس والحب والأمنيات) :
أيهذا الوطن
إنني لم أخن :
آه :
كيف لعصفورة أن تخون
 وليس لها من كفن
غير تربتك المشتهاة ؟ :
............................. " (10)
وينتهي المشهد الثاني منفتحا على الدهشة والاحتمالات بنقاط متتالية تضمر الإجابة عن سؤال استنكاري بصوت العصافير تدفع عن نفسها تهمة خيانة الوطن.
وينزل الشاعر "الستارة" ليخرج علينا معقبا تحت عنوان "تعقيب على ما لم يره المشاهد" لنضفر بمصطلح مسرحي آخر مهم وأساسي في كل عمل مسرحي هو "المشاهد" ينضاف إلى المصطلحات الآنفة الذكر مثل "المشهدان" و"المشهد الأول" والمشهد الثاني والقائمين بالأدوار مثل "الجندي 1" و "الجندي 2" و"راقصة" و"الساقية" و"العصافير" في مكان وزمان مناسبين, ومثل هذه العناصر ضرورية لتحقيق التداخل النصي بين الشعر والمسرح مع حرص واضح على ألا تتحول القصيدة الواحدة إلى مسرحية شعرية في مطمح بات الآن واضحا هو التشبه بنموذج أدبي ملتصق بالمسرح تسعى سائر الأجناس الأدبية إلى التشبه به ألا وهو "الدراما".
وقصيدة "مشهدان" في ظل التوظيف المحكم للعناصر المسرحية هي قصيدة درامية ما دامت تتصف ببعض الخصائص الفنية للدراما وتستخدم بعض وسائلها مثل الصراع والتجسيد والتضحية والانبعاث. فالدراما في مفهومها البسيط مثلما يعرّفها الأستاذ عمر الجمني مقداد في إحدى الحوليات الجامعية "هي الصراع في أي شكل من أشكاله بدءا من الاختلاف وانتهاء بالصدام .
هي المواجهة بين نقيضين..." (11) وقصيدة "مشهدان" قائمة على الصراع ضد "الغربان" والسواد والنسيان والتجسيد لا التجريد. وقصيدة مشهدان تقوم على التجسيد من خلال محاكاة فعل تام يستغرق مدة من الزمن يقوم به أشخاص يفعلون..." (12) : (الجندي 1 – الجندي رقم "2" – الساقية – راقصة عاشقة – الطيور.) ومدارها التضحية (تضحية الجنديين) والانبعاث مثل انبعاث الجندي (1) فمن دمه تطلع الأعشاب...
 ويتواصل التداخل النصي في بقية قصائد المجموعة لكن بأقل كثافة مما رأيناه في قصيدة "مشهدان" وذلك من خلال خطابات مسرحية أحيانا وحوارات قصصية أحيانا أخرى, ففي قصيد (أغنية ماسح الأحذية رقم 1) نقرأ أمنية مشروطة ـ" لو" لماسح الأحذية رقم "1".
" لو ينزل المطر
ألقي الصناديق,
أقول للقمر
تعال, تعال أيها القمر,
أتمسح هذا الحذاء ؟
- بكم ؟
- بخمسين فلسا.
لتجلس
لماذا تمسح أحذية الآخرين؟
وخفّك فوق جبينه كل غبار الزمن" (13)
فالشاعر في هذه الأبيات أدخل ماسح الأحذية رقم "1" مباشرة في حوار مع القمر رغم أن هذا الحوار – حسب الأبيات – لا يتمّ عمليا إلا عندما ينزل المطر فترتوي الأرض وتغدق على الناس من خيراتها. والحوار كما يبدو ليس حوارا عاديا مملا, لأنه يحمل شيئا من العجائبية بدونها ما كانت أذهاننا تستمتع بصورة ماسح الأحذية يمسح حذاء القمر.
 ومما زاد هذه القصيدة إيضاحا للصورة الشعرية, هو تمكن الشاعر من طريقة اختلاف المقاصد المعتمدة في المسرح أثناء الحوار, فماسح الأحذية حين يخاطب القمر له مقصد غير مقصد القمر أثناء الرد. وعلى هذا النحو يتواصل الحوار في اختلاف ظاهر باطنه ائتلاف كامل :
" - أحيّ أبوك ؟
- نعم...
- أبي أطرد الآخرين ومات.
- بخمسين فلسا ؟
- خذ...
 وأكمل قهوته الباردة,
 وقام يطارد تلميذة عائدة..." (4)
 فانظر كيف أن ماسح الأحذية يجيب عن سؤال القمر : "أحيّ أبوك؟" بأن أباه مات شهيدا من أجل الوطن, فيواصل القمر حديثه سائلا : "بخمسين فلسا؟" وهو سؤال له قصد واضح لا علاقة له بما سبقه من جواب ماسح الأحذية, إذ أن القمر يسأل ليتأكد وقد أكمل الماسح مسح حذائه من أن ثمن مسح حذائه هو فعلا "خمسون فلسا". هذا ما يبدو ظاهرا, أما ما خفي فيحمل صورة يبدو من خلالها الأب الذي أطرد الآخرين ومات من أجل الوطن قد كرّمت روحه بهذا المبلغ البسيط الذي قد يكون ثمن القهوة التي كان يترشفها ماسح الأحذية, وبالتالي يصبح الصوت الذي سأل: "بخمسين فلسا؟" صوت النادل.
 وطريقة اختلاف المقاصد في المسرح تقنية نجدها في المسرحيات الذهنية مثل "شجرة الحكم" و"أهل الكهف" لتوفيق الحكيم وبعض مسرحيات "موليار" و"شكسبير".
 وإلى جانب الأدوار نجد في بعض قصائد الديوان الأصوات التي تصاحب عادة ديكورات المشاهد المسرحية مثل المنبهات الصوتية وتكتكات المطر, والأغاني المنبعثة من آلات البث الإذاعي, والدندنات, وهذه الأصوات إذا ما دخلت نسيج النص الشعري وانسجمت معه تفعل فعلتها معنى ومغنى, مثل هذه الدندنة في (أغنية ماسح الأحذية رقم (1) ):
" - كهذا الوطن
يجوع وخيراته...
دن... دن... دن... (يغني)
أعندك بعض السجائر. إني أحس دوارا.
تعبت من الركض خلف المعاطف والقبعات."(15)

هكذا وظّف الشاعر الكمية الصوتية "دن" المقتطعة من فعل "دندن" لإضمار كلام التلميح به في بعض المواقع أبلغ من التصريح به, فأصبح هذا الصوت يقوم مقام جمل شعرية بذاتها تفهم بالغياب.
 ونستطيع أن نضفر بكميات صوتية من نوع آخر في بعض قصائد المجموعة, مثل ذلك الصوت الناتج عن ارتطام قطرات المطر بالأرض في قصيدة "حرائق تحت المطر" :
"(تك... تك... تك...)
المطر هذا اللّذيذ
وصدى أغنية قديمة...
وأشياء مضت عليها أحقاب.
تستيقظ داخلي, كالسكاكين, "(16).
فالصوت "تك" يصبح موقظا لأغنيات ورسوم كثيرة في ذات الشاعر بوتيرة متصاعدة تصاعد وتيرة التكتكات, وإذا كانت قد لعبت دور التصعيد في بداية القصيدة فها هي تتحول إلى عنصر تهدئة وخفض ضغط للقصيدة في آخرها:
"الآن مضى المطر...
فبقيت وحدي أتلمض بقايا الرذاذ
وأجمع حرائقي...
تك
تــ.ك
تــ..ك
تـــ...ك
تــــ....ك (17)
 وقد تعمّد الشاعر الفصل بين حرفي "تك" بنقطة في السطر الأول وبنقطتين في السطر الثاني وبثلاث نقاط في السطر الثالث لينقل إلينا صوت انخفاض وتيرة سقوط المطر من قطرة إلى أخرى إلى أن خمد الصوت نهائيّا وعاد كل شيء في آخر القصيدة إلى سكونه الأول.
 ولم يتوقف هذا الصوت عند هذا الدور إذ قام بأدوار أخرى في بقية ممرات قصيدة "حرائق تحت المطر" من ذلك أنه يرسل ضربا من الإيقاع المتناغم مع خطوات المحبوبة وهي تمر في الشارع :

"(تك..تك..تك...)
 قطرات المطر
تسرق إيقاعها من إيقاع خطواتك الخجولة (18)
كما تتناغم مع نبضات قلب الشاعر :
(تك..تك..تك...)
المطر.
خطواتك
نبض قلبي
على إيقاع واحد
حين أحبك "
 إلى هذا الحد تماهى إيقاع قطرات المطر مع إيقاع الخطوات ونبضات القلب إلى درجة فقدت فيه القدرة على التمييز بين ما هو إيقاع خارجي وما هو إيقاع داخلي.
 ولم تقف هذه التعددية الصوتية عند حدود الإضمار والتصعيد والتهدئة وتنظيم الإيقاع بل تعدت ذلك إلى وظيفة أخرى, ففي قصيدة (دمي للعراق) يتجلى لنا شكل جديد من الأصوات هو "راق" :
" أبي عاد هذا الصباح

وجالسته وجالسته تحت ظل الرّواق

وغنيت حتى انتشى
فغنى : " دمي للعراق."
ورددها النخل :
"...راق.."
"العراق"
"...راق." (19)
والصوت "راق" هو المطلع الثاني من اسم العلم (العراق) فهو جزء من كلّ، لعب في الأبيات دور الفعل راق / يروق / روقا / وروقانا : راق الشراب صفا / وراقه الشيء أعجبه وسرّه, وقد قام مقام فعل تام فاعله (العراق) لتوسيع الحقل الدلالي.
هذا بعض ما تداخل من الأدوار المسرحية والأصوات المتنوعة مع النص الشعري في (حرائق تحت المطر) في تعددية وظيفية رأينا كيف اشتغل على المعنى والمغنى في خطاب شعري سوف نرى كيف تداخل أيضا مع ضرب آخر من ضروب الخطابات السردية وتميز بخاصيات حكائية :
الخطاب السردي السّيري :
إن حضور البطل الشعبي في الكتابات القصصية والشعرية يكون أقرب إلى نفس القارئ أكثر من أي حضور لأبطال من نوع آخر, فهو حمّال لخصوصيات القارئ وملامحه وهمومه ومشاكله وقيمه التي يذود عنها... هذا القارئ يتفاعل أكثر ويخشع إذا كان البطل ذا سيرة تحاكي سيرة الأنبياء والصحابة وأولياء الله الصالحين. وقد تفطّن الشّاعر (الطيب بوغديري) إلى هذه الصلة الحميمية التي تنشأ بين القارئ وأصحاب السير, فراح يسرد علينا شيئا من سيرة أبيه الذي ارتبط في قصائده بالأرض أكثر ممّا ارتبطت بها المرأة بصفة عامة في قصائد شعراء كثيرين, وقد خصّ الطيب بوغديري أباه بأربع قصائد هي :
(القنبلة ص 17) وتمتد على صفحة واحدة.
(أبي ص 45) وتمتد على ست صفحات
(سيرة أبي المبتورة ص 61) وتمتد على صفحتين
(دمي للعراق ص 125) وتمتد على صفحة واحدة
كما خصة في قصيدة (التداعي ص 142) بثلاثة أبيات.
فعلى امتداد عشر صفحات, اكتملت في أذهاننا صورة هذا الأب الفقير الذي عندما حل بالدجاجات وباء لم يجد ما يشتري به حذاء لابنه التلميذ الحافي. ولكن فقره هذا لم يمنعه من أن يكون بطلا يكتشفه ابنه في قصيدة بعنوان (أبي) :
" أبي بطل أيها الناس
يستيقظ الصبح مستبسلا. ويطالعك البشر من وجهه كغزال تراوده الأسئلة " (20).
فمن الملامح الدالة على بطولته الاستبسال والبشر الذي يملأ وجهه. إذ أن من المعروف عن أصحاب السير أنهم يستمدّون من فقرهم البطولة والبركة والحكمة ونفاذ البصيرة. استمع الآن إلى ما كان يردّده الآخرون (الأهل والعشيرة والأصحاب) عن هذا الرجل في قصيدة (سيرة أبي المبتورة).
"أين مضى أبي ؟
أبوك كان يكره الخطابة
أين مضى أبي ؟
أبوك كان يكوه الذين ينفخون في الربابة " (21)
إنها صفات جديدة جاءت على لسان الآخرين, فالرجل ثائر على الكلمات الجوفاء والخطابة المجانية وبيانات الشجب والاستنكار... إنها شهادة على بداية تعرّف الجماعة إلى بطلها ستتطور في الأبيات التالية من نفس القصيدة (سيرة أبي المبتورة) إلى أعلى المراتب :
"أين مضى أبي ؟
أبوك كان واحدا من الصحابة " (22)
إنه انتقال الجماعة من التعرف إلى بطلها إلى "الاعتراف به ليكون قائدها وزعيمها في رحلة الحيــــاة" (23) وهي مرحلة تلي مرحلة "ميلاد البطل" حسب د. أحمد شمس الدين الحجاجي في كتابه (مولد البطل في السيرة الشعبية) (24) وتسبق مرحلة "إخراج البطل من حيز الإنسان العادي إلى حيز الإنسان الأسطوري أي من الواقعي إلى الأسطوري" (25) وباعتراف الجماعة بنبوءة البطل أصبح بوسع الشاعر الفرد أن يسمى الأشياء بأسمائها في قصيدة (أبي).
" وأقول له : حسبك الآن أنك تحمل قلب نبيّ..
وأنك تحقد من أجل سنبلة أن أهينت
وأنك لازلت تسأل :
هل يسقط الغيم أم يستمرّ البكاء ؟
أبي...
لو رأيتم أبي...
لصحتم : "أبانا الذي في السماء". (26)
إنه بطل يتضخّم, إنه نبيّ عند الحديث عنه. يشير الشاعر إلى السماء في شبه تأليه له.
وتتعقد الأمور أكثر, وتبدأ المواجهة مع الجماعة, عندما بدأ البطل يدعو إلى مراجعة كل الأوراق, حتى ما يتصل منها بقوانين الجاذبية ودوران الأرض في قصيدة (سيرة أبي المبتورة).
" كان يقول : (الأرض في اتجاه خاطئ)
تدور كالذبابة (27)
وبذلك يكون البطل قد تجرأ على الجماعة وأعاد عليهم حديثا نعرف تاريخيا عواقبه من خلال ما جرى للعالم "قاليلي" عندما "تجرأ" فتحدث عن الأرض ملك الجماعة ومنطلق نفوذها فجعلها تدور بهم...
وتبدأ مرحلة الغربة والاغتراب وهي من أصعب المراحل وأشقها على نفس البطل إذ عادة ما تكون نتائجها مأساوية, ويظهر ذلك في آخر قصيدة (سيرة أبي المبتورة):
" أين مضى..؟
 مضى...
 إلى...
 مضى...
 إلينا...
 ثم...
 لم يعد...
 مضى إلى الأبد... (28)
فها هي الجماعة تنقلب عليه, وتغيب من سؤال الابن (أين مضى أبي) مفردة "أبي" ويصبح السؤال الجديد في آخر القصيدة "أين مضى...؟" مع نقاط متتالية تشي بتحاشي المفردة, ويأتيه الجواب جواب الجماعة فيعرف منه أنه "لم يعد..." – "مضى إلى الأبد..".
وتنتهي القصيدة دون أن نعرف لماذا مضى البطل إلى الأبد, هل كان الابتعاد عن الجماعة اختياريا بمحض إرادته أم قسريا لعدم اتّساق البطل مع الجماعة ؟
هكذا إذن تداخل النص الشعري لدى "الطيب بوغديري" مع جنس سردي حكائي له وظيفة حمل سيرة بطل نبيّ روى سيرته الابن والجماعة بأداة حكائية "كان" "موغلة في الماضي", وبجمل نثرية طويلة نسبيا مثل جمل قصيدة (أبي) التي يقول في أولها بنفس نثري حكائي:
"أبي بطل أيها الناس.
يستيقظ الصبح مستبسلا. ويطالعك البشر من وجهه كغزال تراوده الأسئلة" (29).
ومثل الجمل النثرية الواردة في وسط القصيدة نفسها : "خطاه"
هي الشمس حاسرة الرأس تذرع ذاك الغلاف البعيد
الذي فيه من زرقة العمر ما يجعل الشعر حقلا من الأرز, والقمر المتعالي فطائر حلوى.
وأرغفة.
ولحافا," (30)
 وهو ما يؤكّد تبدّد "سلطة الشكل الواحد المتكرر" (31)
و"إلغاء اجناسية النص والقول بتداخل النصوص" (32).
وفي ضوء ما تقدم في محور التداخل بين الخطاب الشعري والخطاب السردي السيري في تداخل نصّي وظفه الشاعر – كما رأينا – لنحت نمطين من الأبطال, بطل درامي مجاله القصيدة الدرامية المستفيدة من العناصر المسرحية، وبطل شعبي في قصيدة نثرية تستفيد من السرد الحكائي السيري في أدب السيرة الشعبية, وهما بطلان يلتقيان في نهاية الأمر.
في ضوء ذلك يمكن القول بأن البوغديري أنتج شكلا شعريا من ميزاته أنه مفتوح، يترك للقارئ حرية إعادة بنائه وإنتاجه حسب مرجعياته الثقافية وإدراكاته. ومتعدد, ومشترك مع بعض النصوص الشعرية الجديدة في توقها إلى العودة إلى الأصل، أي النثر..
الإحالات :
1و2و3و4و5) طراد الكبيسي : تحولات النص الشعري العربي من النثر إلى النثر مجلة المسار عدد مزدوج (24-25) جوان 1995 ص ص 28و39
6) "قبل رفع الستارة" ص 150
 7) المشهد الأول ص 151
 8) المشهد الأول ص 151
9) المشهد الأول ص 152
 10 المشهد الثاني ص 156
 11-12) عمر مقداد الجمني : الشعر العربي المعاصر (AR209 حولية جامعية تونس – المعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر.السداسي – سبتمبر 1995/ مارس 1996).
13) "أغنية ماسح الأحذية رقم 1 ص 81
14) أغنية ماسح الأحذية رقم 1 ص 82
15) أغنية ماسح الأحذية رقم 1 ص 82
16) "حرائق تحت المطر" ص 107
 17) "حرائق تحت المطر" ص 116
 18) "دمي للعراق" ص 125
19) "دمي للعراق" ص 125
 20)ي" ص 45
 21 و 22 ) "سيرة أبي المبتورة ص 61
23و24و25) د.أحمد شمس الدين الحجاجي "مولد البطل في السيرة الشعبية "كتاب الهلال – العدد 474. أفريل 1991. ص 85-95-131.
26) "أبي" ص 45
 27 "سيرة أبي المبتورة" ص 62
 28"أبي" ص 48
29) "أبي" ص 45
 30)أبي" ص 46
 31و32) نفس المرجع (1و2و3و4و

الحياة

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا وخالٍ يشتهي عملا ً.. وذو عملٍ به ضَجِرا ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا وذو الأولاد ...