الثلاثاء، 29 يناير 2013

زخات المطر

                                                   زخات المطر

ما أجمل زخات المطر ..
وما أجملها .. إذا بددت سكون المكان ..
وأخذت تعزف أجمل الألحان …وفي رتم صوته أعذب أنشودة ..

 

ما أجمل زخات المطر …
بلسم نفوس البشر .. ومطهر القلوب من كل ألم وأحزان ..
ما أجمل زخات المطر ..
إذا روى الأرض العطشى .. وسقى براعم الربيع ..بعد طول انتظار ..

 

ما أجمل زخات المطر ..
ان كان ذلك الصديق .. الذي يزورنا بعد طول اشتياق ..والنفس تتوق لأستنشاق أريجه مع نفحات الصباح …

ما أجمل زخات المطر ..
ذلك الحبيب الذي يسعد به الصغار قبل الكبار ..
وبرك الماء الصغيرة تملي المكان ..
وفي طرطشة صوتها إذا بدأ اللعب بها … مصحوبة بضحكات الصغار تعزف لها أشجن الألحان ..

ما أجمل زخات المطر ..
أنشودة الحياة ..وان مازال في دنيانا ذلك الخير الذي ينشد ..لتبديد ظلام الظلم الدامس الذي يجثم على الصدور ..

ما أجمل زخات المطر ..
إذا غسلت الصدور الحاكمة بالحقد والمشاحنات ..
وعادت النفوس صافيه .
ذلك الصوت الدافئ .. الذي يطرب له كل سامع ..

                                       بقلم : د . مصطفى عابدين شمس الدين

الجمعة، 25 يناير 2013

دور المقاهي في نشر الثقافة

دور المقاهي في نشر الثقافة.
حين كانت المقاهي جامعات ثقافية .

حين خرج النقاش في البلدان العربية والإسلامية من خانة تحريم استهلاك القهوة (البن)، دخل التاريخ الثقافي والسياسي والأدبي مرحلة جديدة، وتشكل المقهى كمؤسسة ثقافية اجتماعية جديدة في كل من إسطنبول والقاهرة وبغداد ودمشق وتونس وفاس والجزائر.. وتكون هذه الظاهرة تعرض، من جراء ذلك، تاريخ العلاقات بين الأفراد والجماعات إلى هزة انقلابية عارمة، قد لا يمكننا اليوم تقدير حجم الزلزال الذي أحثه ميلاد هذا الفضاء الثقافي السياسي الذكوري في البدء ولكنه شيئا فشيئا أضحى مفتوحا ومتسامحا مع الوجود الأنثوي.مع مطلع القرن العشرين أصبح المقهى فضاء لميلاد فلسفات كبرى، حيزا حرا للأقلام الأدبية التي غيرت مجرى الكتابة وثورت الأجناس الأدبية. ولم يكن المقهى ملجأ الأديب أو السينمائي أو المسرحي أو الفنان التشكيلي بل كان مرفأ فيه نمت كثير من أحلام السياسيين أيضا.شكلت النقاشات والحوارات التي عرفتها المقاهي بين المثقفين على اختلاف مشاربهم شكلا من أشكال تجلي الحريات الجديدة في الفكر والممارسة الفردية والجماعية، لقد كانت المقاهي مفتوحة على متعة الأفكار القادمة من الأرصفة الأربعة. وفي الوقت الذي كان المثقفون يحفرون عادات جديدة في هذا الحيز، كان الحيز بدوره يفرض طقوسه على الجميع، إذ أضحى المقهى المكان المفضل لغالبية الكتاب والفنانين، من بغداد إلى باريس، مكانا للجدل والكتابة والقراءة، والممارسات الاجتماعية حتى أن كثيرا من علاقات الحب بين شخصيات شكلت رموزا في الثقافة والأدب والسياسة أثمرت في المقاهي. لقد كان المقهى مكانا للإبداع وللتخييل والفعل السياسي أيضا. في مقاه بسيطة، تحولت لاحقا إلى فضاءات تاريخية، ولدت تيارات ومدارس أدبية كبيرة. وفي هذه الأماكن حيث رائحة البن والنعناع والسجائر والشيشة أو النرجيلة وأصوات المغنيين ونقرات الموسيقيين على آلات شرقية أو غربية ولدت شخصيات روائية وسينمائية أثارت إعجابنا ولا تزال تشكل كثيرا من التأثير على خيالنا (شخصيات روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ويوسف إدريس وبلزاك وزولا وتولستوي ونيكوس كازانتزاكيس ونابوكوف وديكنز ومارغريت دوراس وسيمون دو بوفوار...)                                                                            .من بغداد إلى دمشق والقاهرة إلى اسطنبول مرورا بروما وتونس وبسكرة وباريس وأمستردام... على كراسي هذه المقاهي في هذه المدن وغيرها جلست أجيال متتالية من العبقريات في الشعر والرواية والفن التشكيلي والسينما والمسرح والموسيقى... وفي هذه المقاهي أيضا ولدت أهم الأفكار التحررية، فيها نمت وتربت حركات التحرر الوطني (كالحركة الوطنية الجزائرية مقهى النجمة بقسنطينة، مقهى طانطافيل والتلمساني بالعاصمة، مقهى الوداد بوهران...) وفيها أيضا ولدت أحزاب اليسار والأحزاب الفوضوية وكثير من الجمعيات الإنسانية.التكعيبة، فلسفة ثوت وبامتياز حضارة العين في الفن التشكيلي، والتي قادها الفنان بيكاسو صديق الثورة الجزائرية والفنان المناهض للفرانكوية، هذه الفلسفة ولدت في المقاهي، تحت سحابة سيجارة مقاومة.                                                                      الوجودية، فلسفة جاءت لتزعج الطمأنينة من الفلسفة التي سبقتها أو عاشت إلى جنبها وهي تطرح مشكلات الخوف والحرية والالتزام والضجر والعبث و... وكان سارتر ونيتشه من رافعي لوائها، هذه الفلسفة بكل ما شكلته من ثقل على الفكر العربي والإنساني كانت المقهى هي حاضنتها، في هول من النقاش المتراوح ما بين السياسي والأدبي والفني والمفاهيمي ولدت هذه الفلسفة وتشعبت مذاهبها.                                                              السوريالية، تلك الطريقة التي حررت الشعر العالمي، بما فيه الشعرية العربية، من أثقال التقليدية، حيث كان كل من أندريه بروتون وبول إيلوار ولويس أراغون وغيرهم يشكلون مرفأ القلق المحرر للمخيال الشعري الإنساني، هذه القفزة الإبداعية الفلسفية ولدت في المقاهي حيث تنوعت القراءات ومعها ظهرت مجلات لمثل هذه الممارسات الإبداعية الجديدة.إن الروايات الأكثر شعبية والأكثر رواجا لكتاب حصلوا على جائزة نوبل من أمثال أندريه جيد (وصاحب رواية قوت الأرض وصديق طه حسين وهو الذي كتب له مقدمة ترجمة الأيام إلى الفرنسية) وألبير كامو(الروائي الإشكالي خاصة في علاقته مع الثورة الجزائرية وصاحب رواية الغريب والطاعون) وإرنست همنغواي (مراسل الحروب في إسبانيا وإفريقيا وصاحب الشيخ والبحر ) ونجيب محفوظ ( صاحب الثلاثية والقاهرة الجديدة و..) ... هذه الروايات هي نتاج تأملات في عوالم المقاهي وما يتصل بها من إلهام وامتلاء ودهشة. لا أحد من قراء العربية يمكنه أن يتصور نجيب محفوظ الروائي بعيدا عن مقهى الفيشاوي !!!إذا كانت المقهى، في زمن مضى، قد مثلت جامعة ثقافية بامتياز، تمكنت أن تغير من مجرى تاريخ الفكر الإنساني، فإنها اليوم تحولت إلى فضاء لمشاهدة "مباراة في كرة القدم" على شاشة تليفزيون مثبت على جدار بارد أو تحولت إلى ملجأ لاستهلاك ما لا يستهلك من "ممنوعات"!!!لكن أفق التاريخ يخبرنا بشيء سوسيو- ثقافي جديد، إنه الإعلان عن ولادة فضاء جديد: السيبير- كافي (مقاهي الإنترنيت). وعلينا أن نعترف بأنه ومن هذا المكان الثقافي الجديد طلعت أولى بشائر حركات الاحتجاج السياسي في العالم العربي والإسلامي. ألا يعني هذا بأننا دخلنا في عصر جديد من عصور المقاهي، وإنه إعلان عن ميلاد "مقهى" جديد بمواصفات ثقافية سياسية جديدة وبحساسية جيل "التكنولوجيا"، وهو قبل هذا وذاك إعلان عن تحول جديد في مجرى التاريخ؟

الخميس، 24 يناير 2013

ديناميـة التعالـق بين «الأنا» و«الآخر» فـي القصيدة الشوقيـة

ديناميـة التعالـق بين «الأنا» و«الآخر» فـي القصيدة الشوقيـة
قصيدة «ذكرى المولد» نموذجاً


د. بغداد عبد الرحمن
البحث عبارة عن استقراء لرؤية مزدوجة بين «الأنا» و«الآخر» في النص الشعري «ذكرى المولد» لأحمد شوقـي، ومدى تعدد القراءات في الكشف عن المتغيرات الأسلوبية التي تشكل سمة إبداع أمير الشعراء والتفرد بين أقرانه من الشعراء. ويشكل الحديث – في هذا النموذج - عن «الآخر» عند شاعرنا فضاءً رحباً ينطلق منه في حديثه ونظرته إلى ذاته «الأنا»، إذ الآخر حالٌ في المجال الوجودي لهويته، حيث نراه يمثل بمفارقته موضوع إغراء له، من خلاله نستطيع تتبع مدى التأثر الإيجابي للشاعر «الأنا» بهذا «الآخر» والنهل من منجزاته الدينية والحضارية.
إن «الأنا» و«الآخر» مولودان معاً، حيث الصورة التي نتخيلها عن أنفسنا لا تتم بمعزل عن صورة الآخر نحونا، وفي المقابل فإن صورة الآخر لدينا هي بمعنى من المعاني صورة عن ذواتنا. لكن يبقى مصطلح كل من «الأنا» و»الآخر» من المصلحات التي تحتاج إلى شرح أوسع، وإلى اتفاق واضح حول المفهوم، إذ يتشظى معنى المصطلحيْن وتتسع دائرة معناهما.
وما يزيد الأمر عجائبياّ، أن صورة الآخر تختلف من شخص إلى آخر، بل وما يزيد الأمر تعقيدا هو اختلاف الآخر باختلاف موقف الأنا منه، مما يشير إلى أن صورة الآخر على هذا الأساس ما هي إلا مجموعة من المركبات التي ترتبط تلقائياً بالسمات الاجتماعية والنفسية والفكرية والسلوكية التي ينسبها فرد ما أو جماعة إلى الآخرين الذين هم خارجها.
ظلَّ مفهوم المصطلحيْن في الدراسات والنظريات الأدبية القديمة محصوراً في الجانب الفلسفي والنفسي فقط، إذْ كان لفظ «الأنا» Le même بالفرنسية أو Ego بالانجليزية يعرَّف بأنه: «شعور بالوجود الذاتي المستمر والمتطور بالاتصال مع العالم الخارجي»1، ولعل من أبرز خصائص «الأنا» الوعْي، حيث تظهر النفس الإنسانية: «متصلة بعالم الواقع اتصالاً مباشراً، وهي حلقة الاتصال بين النزعات الغريزية ومثيرات العالم الخارجي، ولها نزوع أخلاقي يحافظ على القيم ويرعى التقاليد»2.
وعند النظر في المعاجم اللغوية لتعريف الآخر Autre بالفرنسية أو Other بالانجليزية، نجد أن المصطلح عند ابن منظور في لسان العرب بمعنى: غَيْر، كقولك رَجُل آخَر وثوب آخَر3، وفي تاج العروس: «أحد الشيئيْن...: بمعنى غَيْر، كقولك: رجلٌ آخر، وثوب آخر... ثم صار بمعنى المغاير»4. وفي المعجم الوسيط: «الآخر: أحد الشيئيْن ويكونان من جنس واحد...: بمعنى غَيْر»5. أما في قوله تعالى: «فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ»6، فإنَّ المعنى الغالب فيه هو معنى «الغيرية».
وفي الشعر، نجد المتنبي معرفاً إياه قائلاً:
ودَعْ كُلَّ صَـْوتٍ غَيْرَ صَوْتِي
فَإِنَّنِي أَنَا الطَّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصَّدَى7
وبمعنى «غير» ورد أيضاً في بيت امرئ القيس قوله:
إِذَا قُلْـتُ هَذَا صَاحِبٌ قَدْ رَضِيتُه
وَقَـرَّتْ بِهِ العَيْنَـانِ بُدِّلْـتُ آخَرَا8
أما حديثاً، فقد غذَّتْ الدراسات النقدية الحديثة مصطلح «الآخر» وجعلت منه محوراً أساسياًّ ينطلق من مبدأ «الغيرية» أو «المغايرة» altérité, لينطلق فيما بعد إلى نطاق أرحب كالدراسات النفسية والاجتماعية. أما عن العلاقة بين المصطلحيْن «الأنا» و«الآخر»، فإنها كامنة تحت مفاهيم مختلفة كالتمثيل والنفي والقبول والعزلة وغيرها من الأنماط التعاملية, وبهذا تبقى العلاقة بينهما علاقة جدلية لا يمكن إلغاؤها أو تجاهلها، لأن طبيعة الحياة الحقيقية إنما تجعل كل واحد منهما شرطاً ضرورياً لوجود الآخر بغية فهمه والاعتراف به، فهما طرفان منفصلان ومتصلان، مفترقان ومتحدان، في الوقت نفسه»9.
غير أن هذه الإشارة اللسانية المتعلقة بالشاعر والمتمثلة في «الأنا» لم تبْقَ - وفق المفهوم النقدي الحديث – مجرد اسم فاعل داخل النص الشعري، بل اتخذت لذاتها قواماً نفسياً تترجم من خلاله العواطف والمشاعر التابعة له. هذه الأنا الشاعرة التي تعتبر: «نائباً عن الشاعر في ميدان العملية الشعرية – المركز البؤري الأساس والجوهري، الذي يجب فحصه ومعاينته وتأويله حين يتعلق الأمر بأي إجراء قرائي يناور ويغامر باقتحام عالم القصيدة»10. لهذا ظل الحديث عن «الأنا» يُشكِّلُ عند أي شاعر جزءاً من حديثه ونظرته إلى ذاته التي يحاول بواسطتها إثبات هويته كدليل لوجوده, ثم يحاول – بعد ذلك - المواءمة بين نفسه وبين الأجزاء الأخرى المتصلة بها11، حين يشق طريقاً جديداً لإدراك قيمة غيره/«الآخر»، وإلى أي مدى يمكن الانتفاع منه أو به. ولعل من خلال هذا التناسق بين «الأنا» و«الآخر» تولدت تلك الصورة التي نتخيلها عن أنفسنا والتي لا تتم بمعزل عن صورة الآخر لدينا, كما أنَّ صُورة الآخر لدينا هي بمعنى من المعاني صورة عن ذواتنا.
ومن خلال هذا التناسق بين (الأنا والآخر) يحاول كل واحد منهما الانفتاح على العالم بكل ما تحمل هذه الصورة الحياتية من إيجابيات وسلبيات، ومن هنا جاءت أهمية الانشغال بالآخر وتصويب الرؤية الفاعلة نحوه حتي تحفظ له أخريته وتفرده عن غيره, ومن ثم تسمح له بالتعبير عن ذاته التي هي– في الحقيقة – استعداده في توجيه نفسه في الحياة من حيث هي وجود وفعل وقيمة12. وبذلك تتأكد المعادلة المطلقة: لا يمكن أن يكون «الأنا» من دون «الآخر».
وتحقيقا لهذا التصور وتجسيدا لحالة حضوره في الخطاب الشعري سوف نقف عند رؤية الشاعر شوقي (أنا) لشخصية الرسول الكريم (الآخر) في قصيدة «ذكرى المولد»، من المستوى الخطابي الذي يدعو إلى إقامة علاقة تواصلٍ بين «الذات» و«الغير» داخل فضاء نامٍ وحواري يوحي بالحركة والتغير، بغية الانفتاح والتحضر.
شوقـي والمديـح النبـوي:لا شك أن للمرحلة التاريخية الحديثة، أهمية كبيرة في تهيئة ذهن أحمد شوقي لتبني هذا النوع من الخطاب الديني. فعلى المستوى العربي، واكب شوقي مرحلة الانتقال الكبرى التي شهدها المجتمع العربي، وعلى مستويات مختلفة، وغالباً ما امتازت تلك المراحل الانتقالية بالتوتر والقلق النفسي. وولَّدَ هذا الوضع إشكالية، رأى شوقي فيها خلاصة علاقة المثقف عموماً بالواقع العربي، وتتمثل هذه الإشكالية في أنه لا بد من إيجاد القدرة على استيعاب إيقاعات العصر المتعددة وتفادي مغبة السقوط والانكسار في السلبية والتناقض الحاد بين زمن المبدع ورصيده الموروث.
فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائد شوقي من ذكر «الأنا» متحدثة أو موضوع حديثٍ، ليشكل حضورها ظاهرة تستدعي الاهتمام والدراسة، إذْ نجد الكثير منها عبارة عن اعترافات شخصية عاكسة لحياته المريرة، فعبرت عن معاناته وآلامه، وكانت: "بمثابة فضاء شعري يُعَادُ فيه إنتج أنا الشاعر أي سيرته الذاتية من أنا المتكلم»13.
ولعل هذا ما حاول شوقي إبرازه في تعامل ذاته المبدعة/الشاعر/الأنا في علاقتها مع الموضوع/الرسول/الآخر، ليس انطلاقاً من الروح التعبيرية التي ترى أنَّ الأنا: «تعالج العالم الظاهر لا مباشرة، بل عن طريق حالة الانفعال التي يثيرها ذلك العالم في وعي الفنان»14، ومن ثم تكون ذات الشاعر هي التي تأخذ: «المبادرة في الفعل، وتكون مركزاً للشعور والوجدان»15، ولن تبقى منفصلة عن الموضوع، وإنما تتفاعل معه باستمرار معلنة عن وجودها من خلال هذا التفاعل.
وحين يصبح النص الأدبي معلولاً لعلة التعبير أو التصوير أو انعكاساً لتجربة تفاعل «الأنا» مع «الآخر»، فإنَّ الجهد سينصبُّ حينئذٍ وبالدرجة الأولى عليه باعتباره أداة توصيلية أكثر منها قيمة لغوية، كما يذهب إلى ذلك أصحاب المدرسة الشكلانية، إذ يُمثِّلُ الأدب عندهم: «نظاماً مُتميِّزاً للغة له قوانينه المحددة وتراكيبه وأدواته التي يجب أن تدرس بحد ذاتها»16. ومن هنا انصب اهتمام شوقي على الطاقة التوصيلية للنص الممثلة في النظم في حبِّ الرسول كنموذج قادر على تحريك الأعماق الساكنة في نفس المتلقي، وأن تجعل من عمله الأدبي قوة برتابة الوعي ليعيد ترتيب الأشياء، لأنَّ الحياة في تغير مستمر، والأدب قادر– كغيره من النشاطات الفنية – على متابعة هذا التغيير الإنساني.
وقد بلغ شوقي– بهذا التصور- في إنتاجه الشعري درجةً راقيةً لم تُوصِلْهُ إلى مدح النبي ووصفه بشيءٍ له وجودٌ حِسِّي فقط، بل أضفى عليه أيضاً من خياله ما جعل شعره يرسم لنا منهج الرسول الكريم العملي للحياة، المتجلِّي في دعوته إلى الحقِّ وإيثاره وجهاده وكرمه. ولعل سر ارتياح الشاعر لذلك هو: «ابتهاج النفس للإشادة بالسمو الإنساني ولتصوُّرِ مثلٍ عليا للإنسانية»17.
هذا سبب تحرُّك شاعرية أحمد شوقي في المديح النبوي، حيث أكبَّ على قراءة السيرة النبوية ومعرفة دقائق أخبار الرسول وجوامع سيرته العطرة، وأفرغ كل طاقته ووظَّفَ فَنَّهُ في هذا المدْح توظيفاً صريحاً، لأنه رأى فيه هادياً ومحرِّضاً وواعظاً أمَّته. وقد كان من ثمار مدائحه النبوية الكثير من القصائد ذات الصيت الذائع, نذكر من بينها:
(1) قصيدة «نهج البردة»: نسج شوقي هذه القصيدة بمناسبة عودة الخديوي عباس الثاني من الحجِّ, وقد نشرها في جريدة «المؤيد» سنة 1328ه/1910م 18، وهي قصيدة مُطوَّلة تبلغ مائة وتسعين بيتاً مطلعها:
رِيمٌ عَلَى القَاعِ بَيْنَ البَانِ وَالعَلَمِ
أَحَلَّ سَفْكَ دَمِي فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ19.
ومن تَمامِ مدْح شوقي للرسول محمد، وصْفُهُ بأنه أكمل الناس تربيةً ونشأةً وخُلُقاً، حيث شَهِدَ له بذلك جميع مَنْ عَرفَهُ قبل النُّبوة، وممنْ آمن وكفر به بعد النبوَّة. يخْرجُ إلى قبائل العرب يبلغهم الرسالة في عالمٍ مِلْؤُهُ التكذيب بدعوته حيناً، وجور الفرس وهمجية الروم مرةً، وسطْوة القبائل العربية وحبُّها في الاستبقاء تارةً:
سَرَتْ بَشَـائِرُ باِلهَـادِي وَمَوْلِدِهِ
فِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ مَسْرَى النُّورِ فِي الظُّلَمِ.
ريعَتَ لَهَا شُرفُ الإِيوَانِ فانْصَدَعَتْ
مِنْ صَدْمَـةِ الحَقِّ لاَ مِـنْ صَدْمَـةِ القُدُمِ
أَتَيْتَ وَالنَّاسُ فَوضـى لا تَمُـرُّ بِهِم
إِلاَّ عَـلَى صَنَمٍ قَـدْ هَـامَ فِي صَـنَـمِ
وَالأَرْضُ مَـمْلُـوءَةٌ جَوْراً مُسَخَّرَةٌ
لِكُـلِّ طَـاغِيـَةٍ فِي الخَلْـقِ مُحْتَكِـمِ
مُسَيْطِرُ الفُرْسِ يَبْغِـي فِي رَعِـيَّتِهِ
وقَيْصَرُ الـرُّومِ مِـنْ كِبَـرٍ أَصَـمُّ عَمِ
وَالخَلْـقُ يَفْتِـكُ أَقْوَاهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ
كَـاللَّيْثِ بِالبَهِـمِ أَوْ كَالحُوتِ بِالبـَلَمِ20
ثم جاء مدح الشاعر للنبي محمد (ص) مُسْتكملاً للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح أيَّةِ رسالةٍ عظيمةٍ من رسالات التاريخ، فكان جامعاً للمحبة والثقة، وكان مشهوراً بصدقه وأمانته كاشتهاره بعلمه وفصاحة لسانه. وهذه الصفات هي التي عليها المدار في تبليغ الرسالة وإيفاء عظمة هذا الرجل لأنه كان على خُلُقٍ عظيمٍ:
مَحَبَّـةُ الله أَلْقَـاهَا وَهَيْـــبَتُـهُ
عَلى ابْنِ آمِنَةٍ فِي كُـلِّ مُصْطَـدَمِ
كَأَنَّ وَجْهَكَ تَحْتَ النَّقْعِ بَـدْرُ دُجًى
يُضِـيءُ مُلتَثِماً أَوْ غَيْـرَ مُلْتَثِـمِ
بَدْرٌ تَطَـــلَّعَ فِـي بَدْرٍ فَغُـرَّتُـهُ
كَغُرَّةِ النَّصْرِ تَجْـلُو دَاجِـيَ الظُّلَمِ
اللهُ قَسَّمَ بَـيْـنَ النَّــاسِ رِزْقَـهُمُ
وأَنْتَ خُيِّرْتَ فِي الأَرْزَاقِ والقِسَمِ
إِنْ قُلْـتَ فِي الأَمْرِ لاَ أَوْ قُلْتَ فِيهِ نَعَمْ
فَخِيـرَةُ اللهِ فِي لاَ مِنْـكَ أَوْ نَعَمِ
نلاحظُ أنَّ الشاعر لا ينفصل فيه حال الذات عن أحوال الجماعة في صياغةٍ يتماهى فيها العالمان عالم الأفكار وعالم المشاعر، وفي إطار هذا الفهم الشامل يُخاطِب شوقي الرسولَ كما لو كان أحد شعراء الدعوة الإسلامية الأوائل، فيخبره عما يجيشُ في صدره من المحبَّة الباعثة على المُصافاة والمودَّة له، مُجدِّداً له محبَّتَه المُطْلقة في نفسه قائلاً:
مَدِيحُهُ فِيكَ حُبٌّ خَالِصٌ وَهَوىً
وَصَادِقُ الحُبِّ يُمْلِي صَادِقَ الكَـلَمِ
اللهُ يَشْهَدُ أَنِّي لاَ أُعَــارِضُـهُ
مَنْ ذَا يُعَارِضُ صَوْبَ العَارِضِ العَرِمِ
وَإِنَّمَا أَناَ بَعْضُ الغاَبِـطِينَ ومَنْ
يَغْبِـطُ وَلِيَّكَ لاَ يُذْمَمِْ وَلاَ يُلَــمِْ21
(2) قصيدة «الهمزية النبوية» التي تُعْتَبر من أهمّ القصائد التي تمثّل نزعة شوقي إلى الإسلام وشرائعه، وقد أنشأها سنة 1334ه/1917م، حيث أرَّخَ فيها - شعراً - لحياة رسول الله (ص) ولسيرته العَطِرَة, وأظهر أيضا مدى تَوَهُّجِهِ وتألَّقُه بذكر رسول الله ومنجزاته الكونية وإنقاذه للبشرية من سراديب الظلام إلى ضحى النور، مُعارِضاً بها همزية البوصيري «أم القرى في مدح خير الورى»، ولعل هذا ما يدل على ديمومة صلة الشاعر بتراثه الديني الذي استحْوذ على فكره, مِثْلُه مثْل جميع الشعراء الذين استلهموا «مُعْطياتَ التراث دينياً وتاريخياً وثقافياً، وخاصة معطيات الدين الإسلامي»22. وعدد أبياتها مائة وواحد وثلاثون بيتاً، يقول في مطلعها:
وُلِدَ الهُدَى فَالكَائِناَتُ ضِيَاءُ
وفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وَثَنَاءُ23
(3) قصيدة «ذكرى المولد» الأولى التي نَظَمَهَا شوقي سنة 1329ه/ 1911م في تسعـة وتسعين بيتاً بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف ومطلعها:
بِهِ سِحْرٌ يُتَيِّمُهُ كِلاَ جَفْنَيْكَ يَعْلَمُهُ24
وقد نشر القسم الغزلي منها - ويبلغ واحداً وعشرين بيتاً – في الجزء الثاني من «الشوقيات». في حين نشر محمد صبري في كتابه "الشوقيات المجهولة" القصيدة كلها، لاسيما القسم الخاص بمدح النبي الكريم ويضمُّ ثمانية وسبعين بيتاً25، الذي يتوجه به مُبْتَهِجاً ضارِعاً مُبايِعاً رسول الله في يوم مولده، مُشِيراً إلى عظمة الذكرى وعَظَمَة صاحبها، وإلى مدى ترحيب الوجود بذلك الكوكب الدُّرِّيِّ المُشْرِق على الدنيا اسمه محمد، فجاء وصف الشاعر لذلك الميلاد وما واكبه: «من مظاهر قدسية علوية، ثم يحيط بصاحب الرسالة شارحاً ما انطوى عليه من خُلُقٍ وسُمُوٍّ أَهَّلاَهُ عند الله ليكون رسوله وآخر رسله للبشر»26 حيث يقول:
تَجَـلَّــى مَوْلِــدُ الهاَدِي
يُضِـيءُ الكَوْنَ مَوْسِمُـهُ
هَلُمُّوا أَهْــــلَ ذاَ الناَّدِي
عَلَى قَدَمٍ نُـعَـظِّـمُـهُ
بَـداَ تَـسْتَقْبِـلُ الدُّنْيــا
بِهِ خَيْـراً تَـوَسَّـمُـهُ
يُجَمِّلـُهاَ تهَـلِّــلــهُ
ويُحْيِيهـا تَـبَسُّـمُـهُ
إِلى الرَّحْمَنِ جَـــبْــهَتُهُ
وَنَحْـوَ جَلاَلِهـاَ فَـمُهُ
وفِي كَتِفَيْــــهِ نُورُ الحَـ
قِّ وَضَّاحٌ وَرَوْسَـمُـهُ27
(4) أماعن قصيدة «ذكرى المولد» الثانية - التي نحن بصدد دراستها- فإنَّها تُجَسِّدُ إشادة الشاعر الكبيرة بذكرى المولد النبوي الشريف حين نَظَمَها سنة 1331ه / 1914م، وهي تضمُّ واحداً وسبعين بيتاً مطلعها:
سَلُـو قَلْبِي غَدَاةَ سَـلاَ وَثَابَا
لَعَـلَّ عَلَى الجَمَـالِ لَهُ عِتَاباَ28
وقد سلك شوقي في بداية هذه القصيدة مسلك شعراء العرب القدامى في استهلال قصائدهم بالنسيب المصطنع, غير أنَّ نسيبَه مما تَلَذُّ الآذان إلى الإنصات له، ويطيب للنفس التغني به مما جعله يسمو سُمُوًّا يتوافق وما سوف يعرضه من مقاصد دينية29، وهذا ما نلاحظه في قوله:
وَلي بَينَ الضُلـوعِ دَمٌ وَ لَحمٌ
هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا
تَسَرَّبَ في الدُمـوعِ فَقُلتُ وَلّى
وَصَفَّقَ في الضُلوعِ فَقُلتُ ثابا
وَلَـو خُلِقَت قُلوبٌ مِن حَديدٍ
لَما حَمَلَت كَما حَمَلَ العَذابا30
وقد وزعها الشاعر على عناوين عدةٍ متنوعةٍ من حياة الرسول وسيرته العَطِرَة من ميلاده حتى معجزاته, حيث وقف طويلاً عند ذكر البشائر التي اقترنت بمولد الحبيب ودلَّتْ على جلال شأنه وعظيم قدره, فقال:
وَأَرْسَـلَ عَائِــلاً مِنْكُـمْ يَتِيماً
دَناَ مِنْ ذِي الجَلاَلِ فَكَانَ قَابــا
نَبِيُّ البِـرِّ بَيَّـنَـهُ سَــبِـيـلاً
وَسَـنَّ خِلاَلَهُ وَهَـدَى الشِّعَابا
تَفَرَّقَ بَعْـدَ عِيسَـى الناَّسُ فِيــهِ
فَلَمَّـا جَاءَ كَـانَ لَهُمْ مَتاَبــا
وشَافِي النَّفْسِ مِنْ نَزَعَــاتِ شَرٍّ
كَشَافٍ مِـنْ طَبَائِعِهَـا الذِّئابـا
وَكَـانَ بَيَانُهُ لِلْهَــدْيِ سُـبْلاً
وَكَانَتْ خَيْـلُهُ لِلْحَقِّ غَابــا
وَعَلَّـمَـنـا بِـنَاءَ المَجْـدِ حَتَّى
أَخَذْناَ إِمْـرَةَ الأَرْضِ اغْتِصَـابا31
ثم يُعَرِّجُ - بعد ذلك-على حادثة مولد الرسول التي استمد منها الكثير من المعاني الإسلامية، مُتأَثِّراً في ذلك بما سَجَّلَتْهُ كتب السيرة النبوية من المعالم الأخَّاذَة والمعبرَّة عن حقيقةٍ مُشَرِّفَةٍ لا مَحِيدَ عنها وهي: أنَّ مولده كان نوراً أضاء جَنَبَاتَ الأرض بالتوحيد والهداية وأنْقَذَ العالمين من براثن الضلالة والغواية، فأخرج الناس من الظلمات إلى النور وشَرَع لهم ما ينفعهم على مَرِّ الأزمنة والدهور, وفي كل ذلك إنما يصف شوقي:
تَجَلَّى مَوْلِدُ الهَادِي وَعَمـَّتْ
بَشَائِرُهُ البَـوَادِي وَالقِصَابا
وَأَسْدَتْ لِلْبَرِيَّـةِ بِنـْتُ وَهْبٍ
يَداً بَيْضَــاءَ طَوَّقَتِ الرِّقَابا
لَقَدْ وَضَعَتْـهُ وَهَّـاجاً مُنِـيراً
كَمَا تَـلِدُ السَّمَاوَاتُ الشِّهَابا
فَقاَمَ عَلَـى سَمَـاءِ البَيْتِ نُوراً
يُضِيءُ جِبَالَ مَكَّـةَ والنِّقَاباَ
وَضَاعَتْ يَثْرِبُ الفَيْحَاءُ مِسْكاً
وَفَاحَ القَاعُ أَرْجَاءً وَطَابا32
ولم يكتف الشاعر بإيراد هذه الحوادث التي تَزامَنتْ ومولد الرسول، بل ترك العنان لنفسه في تلاحُقِ الصُّوَر وتلوُّنها بمشاعره المرهفة، ليتحدث عن إحساسه بالحُبِّ السامي تجاه هذا النبي العظيم، الذي استقر في نفسه وجعله يـرْهنُ وجوده من أجـل التضحـية بكـل شيء في سبـيل تـثبـيت نبوة محمد فقال:
أَباَ الزَّهْرَاءِ قَدْ جَـاوَزْتُ قَدْرِي
بِـمَدْحِـكَ بَيْـدَ أَنَّ لِيَ انْتِسَابا
فَـمَـا عَرَفَ البَـلاَغَةَ ذُو بَيَانٍ
إِذَا لَمْ يَـتَّخِـذْكَ لَـهُ كِـتَابا مَدَحْتُ
المَالِكِينَ فَزِدْتُ قَــدْراً
فَحِينَ مَدَحْتُكَ اقْتَدْتُ السَّحَابا33.
ثم يُخَصِّصُ أواخر قصيدته للدعاء والتوسل، حيث يذكر أنَّ النبي كان له في كل نازلةٍ نزلتْ به نِعْمَ العوْنُ ونِعْم المجيرٌ عِلاوةً عن عاطفة الولاء له، وراجياً من الله أنْ يُوحِيَ إلى المسلمين كافة كُلَّ خيرٍ وفضْلٍ:
سَأَلْتُ الله َفِـي أَبْنَـاءِ دِينِـي
فَإِنْ تَـــكُنِ الوَسِيلَةَ لِي أَجَابـا
وَمَـا لِلْمُسْلِمِينَ سِوَاكَ حِصْنٌ
إِذَا مَــا الضُّـرُّ مَسَّـهُمُ ونَابـا
كَأَنَّ النَّحْسَ حِينَ جَرَى عَلَيْهِمْ
أَطَـارَ بِكُلِّ مَـمْـلَكَةٍ غُـرَابـا
وَلَوْ حَفِظُوا سَبِيلَـكَ كَانَ نُوراً
وَكَــانَ مِنَ النُّحُوسِ لَهُمْ حِجَابا
بَنَيـْتَ لَهُمْ مِنَ الأَخْلاَقِ رُكْنـاً
فَخَانُـوا الرُّكْـنَ فَـاِنْهَدَمَ اضْطِرَابا
وَكَـانَ جَنَابُـهُمْ فِيها مَهِيبـاً
وَلَلأَخْـلاَقُ أَجْدَرُ أَنْ تُـهَـابـا34
وبذلك، يبدو أحمد شوقي- في رأينا- أنه أخْلص لشعره الإخلاصَ كُلَّه في مدائحه للرسول الكريم، وفي وصفه لأخلاقه وأفعاله بصورة لم يسبقْه إليها شاعر, ومرجع ذلك التميُّز في قصائده النبوية: «ما امتلأ به قلبه من الإيمان، ومن العالمية في الأديان، وفي حقِّ كل مخلوقٍ في التمتُّع بما خَلَقَ الله»35 بل إننا نجد النقاد أنفسهم يعترفون له بالبراعة وحُسْن السبق في ذلك وإنْ بدَتْ عليه بعض ملامح التقليد، ومن ذلك قول أحمد سليمان الأحمد: «لقد قَلَّدَ أحمد شوقي ولكن في تقليده شيئاً أو لوناً من الابتكار يمدُّ برأسه إلى المستقبل، وإنْ لم يكن قد بلغ بعد دور التميُّز، وقد يكون من الظُّلْمِ للحقيقة وللشعر القول بأنَّ أحمد شوقي لم يتركْ أثراً في من تلاه، لأنه كان مُقلداً، ولأنَّ مَنْ تلاه آثر العودة إلى الأصل، ذلك لأنَّ أحمد شوقي لم يكن مُجرَّد مقلد كما ألمحنا، ولكنه حاول أنْ يُجدِّدَ وأنْ ينْقُلَ الأصيلَ إلى روح العصر، ونجح ضمن ظروفه وبيئته»36.
الدراسـة التحليليـة: إنَّ رؤية «أنا» شوقي و«الآخر» الممدوح/النبي تنسجم وفق علاقة دائمة يحكمها التوقير والامتنان، وهذا ما نراه في مدحه الموجه إلى الرسول الكريم صاحب المكانة والفضل مع صحابته:
فَما عَرَفَ البَلاغَـةَ ذو بَيانٍ
إِذا لَـم يَتَّخِذكَ لَــهُ كِتابا
مَدَحتُ المالِكينَ فَزِدتُ قَدراً
فَحينَ مَدَحتُكَ اقتَدتُ السَحابا
سَأَلتُ اللَهَ في أَبنــاءِ ديني
فَإِن تَكُنِ الوَسيلَــةَ لي أَجابا37
يرى شوقي في الآخَر منزلة عالية ومكانة رفيعة، فهو يعده من فصحاء اللسان العربي الذي يطمئن اليه إنسان اقترن به عن قُرْبٍ من عشيرته أو عن بعد من أعدائه. وعلى تلك الدرجة من الاعتراف بالغير وبفضائله، تنبثق قيم أخلاقية وسلوكات حياتية تحقق الوعي الجماعي وحُسْن الاقتداء و«المحاكاة». هذا ما يخلق في ذهن الفرد غيرة وتشوقا تأخذ بـ"الأنا" إلى «الآخر» بقوة كبيرة. فرؤية الآخر بأفعاله وقِيَمِه تشكل تعالياً على الوجود الارضي الضيق والسمو من خلال الانفتاح على الآخر، لتحقيق الوجود للآخرين، وهذا ما نلاحظه من خلال اقتران سننه في الحياة بسلوكيات البشر. وبهذا شكلت رؤية الآخر (الممدوح = النبي) لدى شوقي قوًى تمنح الحيوية والاستمرارية وتجاوزاً لزمن الماضي السلبي. يقول شوقي:
تَعِبتُ بِأَهلِهِ لَومــاً وَقَبلي
دُعاةُ البِرِّ قَد سَئِموا الخِطابا
وَلَو أَنّي خَطَبتُ عَلى جَمادٍ
فَجَـرتُ بِهِ اليَنابيعَ العِذابا38
يشكل الشاعر من خلال هذين البيتين رؤيته لذاته من خلال رؤيته للآخر/الممدوح الذي يسمو بأفعاله عبر دوره الدعوي الرائد مع صحبه من المسلمين, وكأن «أنا شوقي» المتكلمة: «تحظى بدور بارز في إدارة اللعبة السردية داخل متاهة الحكي بوصفه تمظهراً لافتاً ومكوناً أصيلاً»39. لكن في مقابل ذلك نجد تشكيلاً ضديّاً بين النفور والاقبال نحو صوت الحق في ثنائية الماضي والحاضر، والتفاؤل والتشاؤم، والجهل والعلم، وهذا لأنَّ الإنسان وهو يفكر في إثبات وجوده: «يقدر أن يقف خارج إطار ذاته وينظر إلى تاريخه سابقاً ولاحقاً، وبذلك يتمكن من التأثير في تطوره الخاص به كشخص، وهو بعد يستطيع إلى حدٍّ قليلٍ أنْ يُؤَثِّرَ على سيرورة التاريخ لأمته ومجتمعه ككل»40. فهو بذلك مضيء في الوجود مما يؤكد مكانته العالية. وفي السياق ذاته، يقول:
فَمَن يَغتَرُّ بِالدُنيــا فَإِنّي
لَبِستُ بِها فَأَبلَيتُ الثِيابا
لَها ضَحِكُ القِيانِ إِلى غَبِيٍّ
وَلي ضَحِكُ اللَبيبِ إِذا تَغابى
جَنَيتُ بِرَوضِها وَرداً وَشَوكاً
وَذُقتُ بِكَأسِها شُهداً وَصابا
فَلَم أَرَ غَيرَ حُكمِ اللَهِ حُكماً
وَلَـم أَرَ دونَ بابِ اللَهِ بابا
وَلا عَظَّمتُ في الأَشيـاءِ إِلاَّ
صَحيحَ العِلمِ وَالأَدَبِ اللُبابا
وَلا كَرَّمتُ إِلّا وَجهَ حُـرٍّ
يُقَلِّــدُ قَومَهُ المِنَنَ الرَغابا
وَلَم أَرَ مِثلَ جَمعِ المالِ داءً
وَلا مِثلَ البَخيلِ بِهِ مُصابا41
نلاحظ أنَّ شوقي من خلال هذا الوصف يؤكد دائما على الربط بين الآخر/الممدوح والأنا/الشاعر مشكّلاً بذلك لنفسه رؤية خاصة. فحالة التضاد الكامنة بين الغرور، والغباء، والبخل من جهة، وبين الرجاء، والعلم، والعقل، والأخلاق من جهة أخرى، تجعل الشاعر ينتصب عبر الآخر/الممدوح في لجة التغيير محولا الصور السلبية إلى صور إيجابية. فإنْ كانتْ الصفات الأولى رمزاً للجدْب والفقر الخُلُقيْن في سيرة الإنسان التي تجعل صاحبها مُشَتَّتاً بين أقرانه, فالصفات الثانية هي امتداد للوعي البشري الذي وهبه الخالق لخيْر خَلْقِهِ نبينا محمد. وبعد أن استمد الشاعر أفعاله من سيرة (الممدوح) الممثلة في العلم والرزانة والعدل والهُدَى والبصيرة، أراد- بعد ذلك - أنْ يمنح لقومه - عبر الآخر- الأمل في الحياة ويولده في نفوسهم من جديد مُتجاوزاً كل خوْف بل وتعويضه بالثبات والخصْب باعتباره رمز الإيمان والعقيدة.
وفي مقطع رابع نجد الآخر يبرز كوجود للآخرين كرماً ونجدةً وشجاعةً, وفي ذلك يقول:
أَبا الزَهراءِ قَد جاوَزتُ قَدري
بِمَدحِـكَ بَيدَ أَنَّ لِيَ اِنتِسابا
مَدَحتُ المالِكينَ فَزِدتُ قَدراً
فَحينَ مَدَحتُكَ اقتَدتُ السَحابا
سَأَلتُ اللَهَ في أَبنــاءِ ديني
فَإِن تَكُــنِ الوَسيلَةَ لي أَجابا
وَما لِلمُسلِمينَ سِواكَ حِصنٌ
إِذا ما الضَـــرُّ مَسَّهُمُ وَنابا
وَلَو حَفَظوا سَبيلَكَ كان نوراً
وَكانَ مِنَ النُحوسِ لَهُم حِجابا
بَنَيتَ لَهُم مِنَ الأَخلاقِ رُكناً
فَخانوا الرُكنَ فَانهَدَمَ اضطِرابا42
فشخصية الآخر/الممدوح في نظر شوقي رمزٌ مُضيءٌ للـ «أنا»، لما تتملك من صفات إيجابية في سُلَّم القيم الإجتماعية مُشكَّلةً في قُوًى تحافظ على الحياة وتحميها وتنقذها على أساس العدل والإيمان، لذا عرض الشاعر نفسه من خلالها بكل تلك الأبعاد والخصوصيات، لترتسم ملامح شخصيته في شعره ويعلو صوت «الأنا» معلناً: «أن القصيدة هي أنا الشاعر، وقد جعلتْ من ذاتها موضوعاً لذاتها»43.
وأخيراً، لا يلبث أن يتصاعد تصوير شوقي لواقع الأمة، مُنْطوياً على صور جزئية مترابطة تُوحي بعمق المأساة التي كانت تعاني منها، مما جعله يشكل لنا رؤية صورة الآخر/الممدوح في قوى مانحة الخصب والحياة والتجدد والاستمرارية والعطاء والانفتاح:
فَعَلِّم ما استَطَعتَ لَعَلَّ جيلاً
سَيَأتي يُحدِثُ العَجَبَ العُجابا
وَلا تُرهِق شَبابَ الحَيِّ يَأساً
فَإِنَّ اليَــأسَ يَختَرِمُ الشَبابا44
فإن الناظر في هذين البيتين يقف عند استخدام الشاعر لشخصية الآخر/الممدوح كرمز للإنسان الثائر المتمرد على الظلم والرذيلة، والحامل للواء الدعوة إلى الحق والخير، وتبشر النفوس المنهكة- التي ما فتئت عبر تاريخها الطويل تقارع قوى الظلم- بالوهج الإيماني المجسد في الرموز الدينية والمناسبات الإسلامية التي يشعُّ منها روح الأمل وبشرى النصر.
***
وإذ يؤذن البحث بخاتمة مطافه، فلا بد من إجمال نتائجه وهي:
1/ أن رؤية الشاعر/ أنا للآخر/الممدوح جسدت ذلك الفضاء المفتوح على جانبين اثنين هما: أولاً: حركية رؤية «الآخر» الممدوح باعتباره الإنسان المثالي المعبر عن عالم العطاء والحياة، وثانيا: حركية رؤية «الأنا» الشاعر المطوق بالجدب والموت. هذا ما جعل هذه الثنائية تتشابك فيها أنساق غزيرة الإيماء والتلويح على امتداد النص، ليس على مستوى الكلمة والجملة فحسب بل حتى على نطاق الصورة والمعنى.
2/ جاءت علاقة «الأنا» الشاعر ب«الآخر» الممدوح النبي الكريم بأسلوب تعبيري اكتسبت فيه رموز الموروث الشعري المتصل بعصر شوقي وبرؤيته الجمالية والفكرية المألوفة في عصره شحنة نفسية وفكرية منحتها بُعدها الخاص المتراكم من معانيها في مجالها وفضائها الدلالي.
3/ نفاذ رؤية الشاعر إلى عمق مأساة الإنسان الحائر في عصره، وهو عمق مرتبط بحتمية القدر والخضوع لسطوة الإنسان الغالب على المغلوب.
4/ إن رؤية الشاعر للآخر تمثلت في الممدوح بوصفه مثالاً للجمال الروحي والنفسي والحياة والتجدد والاستمرارية والعطاء والانفتاح، لذا وقف أمامه موقف الإعجاب والتفاني في ذاته ثناءً وإخلاصاً.
5/ قامت ذات شوقي على بلورة ذات جديدة مبدعة متحضرة , قوامها إحياء القيم العربية والإسلامية, لذا وجبَ عليها التعامل مع الآخر/الممدوح, بدءاً بالانتماء إليه, مروراً بالاعتراف بقيمته ومكانته, وصولاً إلى الدعوة إلى ما دعا إليه من حبّ وإحسان وحضارة.
إحالات البحـث (Endnotes)
1- جبور عبد النور، المعجم الأدبي – بيروت – دار العلم للملايين – ط 2 – 1984- ص 36.
2- علاء عبد الهادي، شعرية الهوية – مجلة عالم الفكر – الكويت – مج 36 – ص 284 – 285.
3- ابن منظور، لسان العرب – مادة (اخر) / تحقيق: أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي – بيروت – دار إحياء التراث العربي – ط 3 – 1413هـ/1999م – ج 1 – ص 82.
4- الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس/ تحقيق: مجموعة من الباحثين – الكويت – مطبعة حكومة الكويت – 1392هـ/1972 م – ج 10 – ص 34.
5- المعجم الوسيط – مادة (اخر) – مجمع اللغة العربية بدمشق – دمشق – مكتبة النوري – ط 3 – 1405 هـ/ 1985م – ج1– ص8.
6- سورة المائدة: الآية 107.
7- ناصف اليازجي، العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب – بيروت – دار بيروت للطباعة والنشر– ج2 1401هـ
1981- ص 185.
8- امرؤ القيس، الديوان – شرح: عبد الرحمن المصطاوي- بيروت – دار المعرفة – ط2 – 1425هـ/2004م – ص97.
9- حسين العودات، الآخر في الثقافة العربية من القرن السادس حتى مطلع القرن العشرين– بيروت – دار الساقي– ط 1–2010 – ص19.
10- رؤيا الحداثة الشعرية لمحمد صابر عبيد – عمان - منشورات أمانة عمان – ب.ط – 2006 - ص 45.
11- البحث عن الذات / دراسة نفسية تحليلية لرولو ماي/ ترجمة: عبد علي جسماني– بيروت – المؤسسة العربية للدراسات والنشر– ط 1 – 1993 – ص10.
12- المرجع نفسه – ص 36.
13- كل طريق تؤدي إلى الشعر لعز الدين إسماعيل – بيروت – الدار العربية للموسوعات – ط 1 – 2006 – ص 69.
14- الأديب وصناعته – دراسات في الأدب والنقد – ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا – بيروت – المؤسسة العربية للدراسات والنشر– ط 2 – 1983– ص 56.
15- جون ماكوري، الوجودية / ترجمة: إمام عبد الفتاح – سلسلة عالم المعرفة - الكويت – 1402هـ/1982م – ص 12.
16- تيري إيغلتن, مقدمة في النظرية الأدبية/ ترجمة إبراهيم جاسم العلي– بغداد– دار الشؤون الثقافية العامة - 1992– ص8.
17- أحمد أحمد بدوي, أسس النقد الأدبي عند العرب – القاهرة – مكتبة نهضة مصر – ط 3 – 1964 – ص 197.
18- محمد صبري, الشوقيات المجهولة – بيروت – دار المسيرة – ط 2 – 1979 – ج 2 – ص 116.

19- أحمد شوقي, الشوقيات – بيروت – دار الكتب العلمية – ط 1 – 1990- ج 1 – ص 190.
20- المصدر نفسه – ص 197 و198.
21- المصدر نفسه – ص 208.
22- رجاء عيد، لغة الشعر – الإسكندريةـ منشأة المعارف ـ ط 2ـ 1985ـ ص 427.
23- المصدر السابق – ج 1 – ص 34.
24- محمد صبري، الشوقيات المجهولة – بيروت – دار المسيرة – ط 2 – 1979 – ج 2 – ص 135.
25- المرجع نفسه – ص 135.
26- أحمد عبد المجيد، شوقي الإنسان – القاهرة – دار المعارف – ب.ط – ب.ت – ص 17.
27- المرجع السابق– ج 2 – ص 137.
28- أحمد شوقي، الشوقيات – ج 1 – ص 68.
29- أحمد عبد المجيد، شوقي الإنسان – ص 66.
30- المصدر السابق – ج1 – ص 68.
31- المصدر نفسه – ص 71.
32- المصدر نفسه – ص 71.
33- المصدر نفسه – ص 71 و 72.
34- المصدر نفسه – ص 72.
35- أحمد عبد المجيد، شوقي الإنسان – ص 29.
36- أحمد سليمان الأحمد، الشعر الحديث بين التقليد والتجديد – ليبيا / تونس – الدار العربية للكتاب – 1983 – ص 109.
37- أحمد شوقي، الشوقيات – ج 3 - ص 72.

38- المصدر نفسه - ص 70.
39- تأويل متاهة الحكي في تمظهرات الشكل السردي لمحمد صابر عبيد – اللاذقية – دار الحوار للنشر والتوزيع - ط 1 – 2007 - ص95.
40- الأنا والهو لسيجموند فرويد – ترجمة: محمد عثمان نجاتي – بيروت – دار الشروق – ط 4 – 1982 – ص 97.
41- أحمد شوقي, الشوقيات – ج 3 - ص 69.
42-المصدر نفسه – ص 71 و72.
43- كل طريق تؤدي إلى الشعر لعز الدين إسماعيل – ص 69.
44- المصدر السابق– 70.

الحياة

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا وخالٍ يشتهي عملا ً.. وذو عملٍ به ضَجِرا ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا وذو الأولاد ...