الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

المعجم والقاموس
(دراسة تطبيقية في علم المصطلح)

د. علي القاسمي (*)

100ـ المشكلة:
يسعى علم المصطلح الحديث إلى تخصيص مصطلح واحد للمفهوم الواحد في الحقل العلمي الواحد، بحيث لا يعبر المصطلح الواحد عن أكثر من مفهوم واحد، ولا يُعبَر عن المفهوم الواحد بأكثر من مصطلح واحد. وهذا يتطلب التخلص من الاشتراك اللفظي والترادف في المصطلحات.
ولما كان كثير من المثقفين الناطقين باللغة العربية يستخدمون لفظتي(معجم) و(قاموس) بوصفهما مترادفتين، فإن بعض اللسانيين العرب، من لغويين ومعجميين ومصطلحيين، حاولوا الاستفادة من تخصيص هذين المترادفين للتعبير عن ثنائيات مفهومية تكاثرت بفضل النمو المطرد في البحث اللساني الحديث.
وهكذا ارتأى بعضهم الاستفادة من هاتين اللفظتين للتفريق بين المفهوم 1 (مجموع المفردات المفترض للغة) والمفهوم 2 (مجموع المفردات المختارة التي يضمها كتاب مع معلومات لغوية أو معرفية عنها)، فخصوا المفهوم 1 بلفظ (المعجم) والمفهوم 2 بلفظ (قاموس). وذهب بعضهم الآخر إلى أن كلمة (معجم) ينبغي أن تطلق على (المخزون المفرداتي الذي يمثل جزءا من قدرة المتكلم/المستمع اللغوية) في مقابل (قاموس) التي يجب أن تطلق على (المجموع المفرداتي في كتاب).
ومن ناحية أخرى فإن مبدأ الاقتصاد في اللغة شجع بعض المصطلحيين على تفضيل المصطلح البسيط المؤلَّف من لفظ واحد على المصطلح المركب المكون من لفظين أو أكثر. ومن هنا نَحوا إلى تخصيص لفظ (القاموس) للدلالة على نوع معين من المعاجم هو (المعجم الأحادي اللغة) والاحتفاظ بلفظ (المعجم) للتعبير عن نوع آخر هو(المعجم الثنائي اللغة)، على غرار تواضع المترجمين على إطلاق لفظ (المترجم) على (المترجم التحريري) ولفظ مرادفه (الترجمان) على (المترجم الشفوي الفوري).
ونظرا لأن المفاهيم اللسانية تتكاثر بتقدم البحث العلمي وأن المعاجم تتنوع بتعدد الحاجات المعرفية للإنسان، فإننا لا نستبعد أن يلجأ لسانيون عرب آخرون إلى استخدام كلمتي (معجم) و (قاموس) للتعبير عن مفاهيم لغوية جديدة أو أنواع مختلفة من المعاجم.
إن تخصيص مترادفين للتعبير عن مفهومين مختلفين محاولة مشروعة وأمر محمود يؤدي إلى التقليل من الترادف ويسهم في تيسير عملية التواصل بين المتخاطبين. ولكي يكون هذا التخصيص مؤديا للغرض مفيدا ينبغي أن لا يتعارض مع الاستعمال الساري وأن يحظى بقبول الناطقين باللغة حتى ينال مرتبة الشيوع. أما إذا اقتصر أمره على فئة محدودة تخالف المتفق عليه بين الجمهور، فإن تلك المحاولات قد تؤدي إلى عكس ما تتوخاه وتنتج عنها ازدواجية مصطلحية، تعيق حركة انتقال المعرفة وتضر بالتواصل بين أبناء الأمة الواحدة.
200ـ المعجم
كلمة (المعجم) ـ في المعاجم التراثية ـ مشتقة من مادة (ع ج م)، و(العجمة) هي عدم الفصاحة وعدم البيان، و(الأعجم) هو الذي لا يفصح ولا يبين، و(أعجم الكلام) جعله مشكلا لا بيان له، أو أتى به أعجميا فيه لحن، وعادة ما يؤخذ الشاهد على ذلك من قول رؤبة أو الحطيئة:
الشعر صعب وطويل سُلّمُـه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعـربه فيعـجـمه
وفي "لسان العرب" : " أعجمت الحرف: بينته بوضع النقط السوداء عليه... وأعجم الكتاب: نقّطه وأزال استعجامه على سبيل السلب، لأن صيغة (أفعل) الأصل فيها الإثبات، وقد تأتي للسلب."
وقد استخدمت كلمة (معجم) في وقت متأخر للدلالة على كتاب ترتب فيه المعلومات بطريقة معينة، من قبل علماء الحديث أولا، قبل أن يستخدمها علماء اللغة. ويجمع لفظ (معجم) على معاجم ومعجمات.
210ـ تسمية المعاجم في التراث العربي
من الناحية التاريخية، مر المعجم العربي في تطوره بمراحل متعددة حتى بلغ ما هو عليه الآن. ولم يطلق عليه اسم (معجم) في جميع تلك المراحل. فقد بدأت المعجمية العربية انطلاقا من عناية المسلمين بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وحرصهم على فهمها والوقوف على غريبهما. والمقصود بغريب القرآن أو غريب الحديث اللفظ الغامض البعيد عن الفهم "كما أن الغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل." (أحمد الشرقاوي إقبال،1987: 7) وكان أول كتاب في غريب القرآن لعبد الله بن عباس بن عبد المطلب، الملقب بحَبر الأمة وبترجمان القرآن المتوفي سنة 68 هـ ثم تعددت الكتب التي تحمل عنوان (غريب القرآن) و (غريب الحديث) ( المصدر السابق نفسه). وفي هذه المرحلة لم تستخدم كلمة (معجم) لوصف تلك الأعمال المعجمية.
وفي المرحلة الثانية أخذ علماء اللغة يشدون الرحال إلى البادية لمشافهة الأعراب وجمع المادة المعجمية من مصادرها الأصلية وتدوينها ثم تصنيفها تصنيفا موضوعيا وإصدارها في رسائل صغيرة تضم المفردات المتعلقة بخلق الإنسان وخلق الحيوان والنبات والحرب والأسلحة. وكانت تلك الرسائل تحمل عنوان (كتاب) مثل (كتاب الخيل) و (كتاب الإبل) و (كتاب الشاء) و (كتاب الحشرات) و (كتاب الطير). وهي بمثابة معاجم مختصة يصنفها عدد غير قليل من أئمة اللغة في ذلك العصر مثل كالكسائي ( ت 200هـ) والنضر بن شميل (ت 204هـ) وقطرب (ت 206) وأبي عبيدة (ت 210) والأصمعي ( ت 216) (جواد حسني عبد الرحيم:1999:381). ولم تحمل معاجم الموضوعات تلك كلمة (معجم) في عناوينها وإنما (كتاب)، كما ذكرنا.
وتتسم المرحلة الثالثة بظهور المعاجم العامة المتكاملة وتؤرخ عادة ب (كتاب العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي(100ـ175هـ) وكتاب (الجيم) لأبي عمر الشيباني (ت 206هـ) و(البارع في اللغة) لأبي طالب المفضل الضبي (ت 290هـ)، و(جمهرة اللغة) لابن دريد (ت 321هـ)، و(البارع في اللغة) لأبي علي القالي (ت 356هـ)، و(تهذيب اللغة)لأبي منصور الأزهري (ت370هـ). وفي هذه المرحلة وما تلاها من مراحل تطور المعجم العربي نجد أن المعجميين العرب يفضلون إطلاق اسم علم على معاجمهم مثل (المحيط) و (المحكم) و (العباب) و(القاموس). ولا نجد كلمة (معجم) في عناوين مثل هذه التصانيف إلا في أواخر القرن الرابع الهجري في (المعجم في بقية الأشياء) لأبي هلال العسكري وفي أواخر القرن الخامس الهجري في (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) لأبي عبيد البكري، وكلاهما معجم مختص.
وقد استمر هذا التقليد في إعطاء المؤلفين اسم علم لمعجمهم حتى النهضة العربية الحديثة، فأصدر بطرس البستاني (1819 ـ 1883) معجمه (محيط المحيط) ومختصره معجم (قطر المحيط)، ونشر لويس معلوف (1846 ـ1946) معجمه (المنجد)، وحملت معاجم ثنائية اللغة أسماء مثل (المورد) و (المنهل) وما إلى ذلك. ثم أخذ عدد من المؤسسات الثقافية يستخدم كلمة (معجم) في عناوين أعمالها المعجمية. وفي طليعة هذه المؤسسات مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي نشر (المعجم الوسيط) عام 60/ 1961 ، ومؤسسة لاروس التي أصدرت (المعجم العربي الحديث) عام 1987 ، والمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة التي نشرت (المعجم العربي الأساسي) عام 1989. إضافة إلى أن كثيرا من المؤلفين أخذوا يستعملون كلمة (معجم) في عناوين مؤلفاتهم المعجمية.
300ـ القاموس
في نطاق إطلاق نعوت الماء والبحر على التصانيف المعجمية كالعباب والمحيط اتخذ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 هـ) اسم (القاموس المحيط) عنوانا لمعجمه.
ويخبرنا الفيروزآبادي في معجمه المذكور أن كلمة (قاموس) تعني "معظم ماء البحر". و(القاموس)مشتق من مادة ( ق م س). وفي (لسان العرب) لابن منظور: قمس في الماء يقمس قموسا: انغط ثم ارتفع، وقمسه فانقمس أي غمسه فيه فانغمس، يتعدى ولا يتعدى, والقاموس والقومس: قعر البحر، وفي الحديث الشريف: "قال قولا بلغ به قاموس البحر" أي قعره الأقصى. وقيل القاموس: معظم ماء البحر أو وسطه.
وبعد صدور (القاموس المحيط) بفترة وجيزة انتشر انتشارا واسعا، وذلك لأن صاحبه جمع فيه محاسن أفضل المعاجم التي سبقته كالمحكم لابن سيده والعباب للصاغاني، وجعله في حجم يسهل استنساخه وتداوله وحمله، "فطار صيته في كل مكان وشاع ذكره على كل لسان"، كما يقولون، و"اشتهر في المدارس اشتهار أبي دلف بين محتضره وباديه، وخف على المدرسين أمره إذا تناولوه، وقرب عليهم مأخذه فتداولوه وتناقلوهّ كما يقول عنه مرتضى الزبيدي في مقدمة معجمه (تاج العروس من جواهر القاموس) الذي ـ كما هو ظاهر من عنوانه ـ يتخذ من معجم القاموس منطلقا له، وهذا شأن كثير من المعاجم اللاحقة التي جعلت من (القاموس) أساسا لها مثل معجم (محيط المحيط) لبطرس البستاني (1819ـ1883). كل هذه الأسباب جعلت الناس يطلقون كلمة (قاموس) على أي معجم آخر من باب إطلاق اسم أحد أفراد النوع على النوع كله، أو ما يسميه الدكتور إبراهيم أنيس بـ "تعميم الدلالة (إبراهيم أنيس، 1976: 154)
ويرى الدكتور عباس الصوري، الذي كان من أوائل الذين درسوا مشكلة تسمية (المعجم والقاموس)، أن هذه الظاهرة كادت أن تتكرر بعد صدور معجم (المنجد) للويس معلوف وانتشاره واشتهاره، فيقول: " أضحى هذا المعجم ظاهرة العصر بحيث نجده في مكتبة الأديب والباحث والمدرس والتلميذ في أحجام كبيرة ومتوسطة وصغيرة، ولاتساع نطاق شهرته بين متعلمي اللغة العربية غطى اسمه على بقية المعاجم الأخرى إلى حد اختلط الأمر على الطلاب فأصبحوا يستعملون لفظة (المنجد) للدلالة على معنى القاموس..." (عباس الصوري، 1998: 16).
وعلى الرغم من أن بعض اللغويين المتشددين يعتبرون استعمال كلمة (قاموس) بمعنى (معجم) نوعا من الخطأ الشائع، كما يرى الدكتور إبراهيم السامرائي، فإن هذا لا ينفي أن كلمة (قاموس) أصبحت مرادفة لكلمة (معجم) في اللغة العربية الفصيحة المعاصرة، ودخلت في (المعجم الوسيط) لمجمع اللغة العربية في القاهرة وفي (المعجم العربي الأساسي) للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة(عباس الصوري، 1998 : 9)
400ـ المعجم والقاموس
إذن تُستخدم لفظتا (معجم) و(قاموس) في اللغة العربية المعاصرة بوصفهما مترادفتين، أحببنا ذلك أم كرهنا. والترادف في اللغة، إن وجد حقا، ينبوع ثر تهفو إليه أفئدة الأدباء، من شعراء وكتاب، لإغناء نصوصهم بمفردات متنوعة. ولكن المصطلحيين وأصحاب الاختصاص يحبذون، كما أشرنا من قبل، أن يختص المفهوم العلمي الواحد بمصطلح واحد لتكون نصوصهم ذات دلالة دقيقة مضبوطة. وهكذا فهم يميلون إلى التخلص من الترادف والاشتراك اللفظي للتخلص من أي تشويش دلالي محتمل.
ومن الأمثلة على ذلك اللفظان المترادفان (مترجم) و(ترجمان) اللذان يطلقان على من يقوم بنقل النصوص من لغة إلى أخرى. وعندما ازداد التواصل الإنساني بفضل الثورة الصناعية وتطور وسائل النقل في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وتفاقمت الحاجة إلى المترجم الشفوي الفوري في الملتقيات والمؤتمرات الدولية، وطورت الصناعة أجهزة كهربائية لتيسير عمل المترجمين الفوريين، وأخذت معاهد تعليم الترجمة توزع طلابها على تخصصين مختلفين هما الترجمة التحريرية والترجمة الشفوية الفورية، اشتدت الحاجة إلى مصطلحين مختلفين للدلالة على هذين النوعين المتباينين من المترجمين. وعند ذاك لجأ أصحاب المهنة إلى الاستفادة من الترادف الموجود في اللغة العربية فاصطلحوا على إطلاق لفظ (المترجم) على المترجم التحريري وإطلاق لفظ (ترجمان) على المترجم الشفوي الفوري. وكان لهم سند في تراث العرب اللغوي مستمدا من قول النابغة الذبياني:
إن الثمانين، وقد بلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
410 ـ مفردات الأمة ومفردات الكتاب:
عرف علم اللغة انطلاقة جديدة في أواخر القرن التاسع عشر وازدهر أواسط القرن العشرين. وقادت البحوث اللغوية الحديثة إلى ظهور عدد من المفاهيم الحديثة. وقد فرّق بعض هذه البحوث بين مفهومين: الأول "المجموع المفترض واللامحدود من الألفاظ التي تملكها جماعة لغوية معينة بكامل أفرادها" وهو ما اصطلح اللسانيون على تسميته بالإنجليزية Lexicon وبالفرنسية lexique. والمفهوم الثاني هو " مجموعة من الألفاظ المختارة المرتبة في كتاب ترتيبا معينا مع معلومات لغوية أو موسوعية عنها"وهو ما اصطلح عليه بالإنجليزيةDictionary وبالفرنسية dictionnaire.
وعندما واجه اللغويون العرب المعاصرون هذا الفرق بين المفهومين، ارتأى بعضهم الاستفادة من اللفظين المترادفين (معجم) و (قاموس) فخص المفهوم الأول بكلمة (معجم) وترك كلمة (قاموس) للمفهوم الثاني.
وفي واقع الأمر كان علماء اللغة العرب القدامى يدركون الفرق بين المفهومين. وكانت همتهم العالية تحدوهم إلى محاولة تصنيف معجم يلم لا بجميع المفردات الموجودة في اللغة العربية فحسب، وإنما بجميع المفردات الممكنة الوجود كذلك. وقد تجلت هذه المحاولة في البرنامج الطموح الذي صممه أبو المعجمية العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه الموسوم بـ "كتاب العين"، وذلك باتباع طريقة تقليبات الجذور لتحديد المواد المستعملة والمهملة وغير الممكنة الوجود لأسباب صوتية وغيرها. وهذا معنى قول الخليل في مقدمة المعجم إنه أراد أن يصنف كتابا يكون "مدار كلام العرب وألفاظهم، لا يخرج منها عنه شئ." (الخليل، 1980: 18).
ومن اللسانيين العرب الذين يستعملون (معجم) و (قاموس) بمعنيين مختلفين الدكتور عبد العلي الودغيري الذي يستخدم كلمة معجم للدلالة على "المجموع المفترض (أي الموجود بالقوة لا الفعل) واللامحدود من الوحدات المعجمية التي تمتلكها جماعة لغوية معينة بكامل أفرادها، أو يمكن أن تمتلكها احتمالاً، بفعل القدرة التوليدية الهائلة للغة."وهكذا فمعجم مقابل lexique. ويستعمل كلمة (قاموس) للتعبير عن كل كتاب "يجمع بين دفتيه قائمة تطول أو تقصر من الوحدات المعجمية (المداخل) التي تحقق وجودها بالفعل في لسان من الألسنة، ويخضعها لترتيب وشرح معينين." (الودغيري، 1989: 130)
ويلاحظ أن هذا الاستعمال مغاير لاستعمال الجمهور، كما سنرى فيما بعد.
ويتبنى الدكتور عبد القادر الفهري موقفا مماثلا في كتابه "المعجم العربي" فيقول ما نصه: "إن معرفة مجموع مفردات اللغة، أو معجمها، تقتضي الإحاطة بعدد هائل من المعلومات عن هذه المفردات، وضمنها خصائصها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية والبلاغية."
ويواصل كلامه في نفس النص فيقول: "وقد قامت في الحضارات المختلفة صناعة قاموسية (أو معجمية) تتوخى وصف هذه المعرفة في جوانب ومستويات محددة بحسب الأهداف التي يوضع لها المؤلًَف القاموسي." (الفاسي الفهري، 1986: 14-13)
ويلاحظ في الفقرة الأولى أن الكاتب يستخدم عبارة "معجم اللغة" بمعنى (Lexicon, lexique ) ويميل في الفقرة الثانية إلى استخدام "قاموس" بمعنى (Dictionary, dictionnaire) ، ولكنه يستعمل في الوقت نفسه لفظ (معجم) مرادفا لـ (قاموس). وهذا لا يخالف صراحة الاستعمال الشائع للفظين.
ويسير على نهج الدكتور الودغيري أحد تلامذته، السيد عبد الله ولد عبد المالك، الذي أعد بحثا لنيل دبلوم الدراسات العليا في جامعة محمد الخامس أوضح في بدايته أنه سيستخدم كلمة (معجم) مقابلا للكلمة الفرنسية (lexique ) وكلمة (قاموس) مقابلا للكلمة الفرنسية ((dictionnaire. (عبد المالك،1999: 5). ولكن بعد أسبوع واحد من مناقشة ذلك البحث، نوقشت في القاعة ذاتها رسالة دكتوراه دولة قدمها الباحث جواد حسني عبد الرحيم سماعنه بعنوان "المصطلحية العربية بين القديم والحديث" استخدم فيها كلمتي (معجم) و(قاموس) بوصفهما مترادفين (سماعنة،1999). وهذا التناقض في الاستعمال في مؤسسة واحدة يبين أهمية البحث في هذه التسمية بصورة موضوعية.
420: مفردات الفرد ومفردات الكتاب:
ومن ناحية أخرى اتجهت بعض البحوث اللغوية الحديثة إلى التمييز بين مجموع المفردات الموجودة في معجم من المعاجم وبين الثروة اللفظية لفرد من الأفراد. ومعلوم أن رصيد الفرد الواحد من المفردات يقل بكثير عن مفردات معجم متوسط مهما كانت ثقافة ذلك الفرد، كما تقل مجموع مداخل المعجم مهما كان كبيرا عن مجموع المفردات المفترض الذي تمتلكه الجماعة اللغوية.
وهنا لجأ بعض اللغويين العرب إلى الكلمتين المترادفتين (معجم) و(قاموس) لاستخدامهما للتعبير عن مفهومين مختلفين، كما فعل الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري في إحدى دراساته حيث خصص لفظ (المعجم) للدلالة على "المخزون المفرداتي الذي يمثل جزءا من قدرة المتكلم/المستمع اللغوية" وجعل لفظ (القاموس) يدل على "لائحة المفردات ومعانيها التي يضمها كتاب." (الفاسي الفهري،1985: 73)
430ـ المعجم الأحادي اللغة والمعجم الثنائي اللغة:
إذا كانت المحاولات السابقة في تخصيص (معجم) و (قاموس) تستند إلى المبدأ المصطلحي القاضي بالتخلص من الاشتراك اللفظي، فإن محاولات أخرى تناولت هاتين الكلمتين كانت تطبيقا لمبدأ مصطلحي آخر هو الاقتصاد في اللغة ومفاده أن المصطلح الذي يتألف من لفظ واحد أفضل من المصطلح الذي يتكون من أكثر من لفظ واحد. ومبدأ الاقتصاد في اللغة يرمي إلى تيسير الاتصال.
ومن المحاولات في المجال المعجمي لاستعمال مصطلحات بسيطة (أو مؤلفة من لفظ واحد) بدلا من مصطلحات مركبة (أو مكونة من أكثر من لفظ واحد) تلك المحاولة التي أقدمت عليها اللسانية المغربية الدكتورة ليلى المسعودي للتفريق بين الأنواع المختلفة للمعاجم. ويرمي تصنيفها إلى التفريق بين المعاجم الأحادية اللغة والمعاجم الثنائية اللغة أو المتعددة اللغات، وكذلك بين المعاجم التي تشتمل مداخلها على تعريفات وتلك المعاجم التي تشتمل مداخلها على مقابلات فقط. ويعتمد تصنيفها معايير عديدة هي: طريقة المعالجة، وخصائص المسرد، وخصائص المفرد، وخصائص التعريف، وعدد اللغات، والموقف اللساني، والبعد الزمني، والوظيفة. وترتب هذه المعايير في شكل جدول، وينتهي الأمر بها إلى تحديد أربعة أنواع من الأعمال المعجمية هي 1) القاموس 2)المعجم 3) الملفظة 4) الملسنة.
وما يهمنا من هذا التصنيف أستخدام الدكتورة المسعودي للمترادفتين (معجم) و(قاموس). فقد خصصت لفظ (معجم) للدلالة على المعاجم المتعددة اللغات التي لا تشتمل على تعاريف، واستعملت لفظ (قاموس) للدلالة على المعجم الأحادي اللغة أو المتعدد اللغات الذي يشتمل على تعاريف. ففي تعليقها على جدول معايير تصنيفها تقول ما نصه: "ويبين الجدول أن (المعجم) يكون متعدد اللغات في حين أن (القاموس) يمكن أن يكون أحادي اللغة أو متعدد اللغات، كما يتسم الأول بغياب التعاريف والاكتفاء بتقديم مجموعة من المصطلحات في شكل مقابلات معجمية تنبني على علائق التكافؤ القائم أو المفترض بين اللغة المصدر واللغة أو اللغات الهدف." (المسعودي، 1998: 166)
وهذا الاستعمال مخالف لاستعمال الجمهور، كما سنرى فيما بعد.
500 ـ التراتيبية في المبادئ المصطلحية
510 ـ إن اجتهادات اللسانيين التي مر ذكرها والمتعلقة بإعادة تعريف لفظي (معجم) و(قاموس) للتعبير عن مفاهيم لسانية جديدة هي محاولات مشروعة بل مستحبة لثلاثة أسباب: الأول، إن ظهور مصطلحات جديدة تثري اللغة كان دائما نتيجة اجتهادات من لدن الناطقين بتلك اللغة. ثانيا إن من حق الباحث، بل من واجبه أحيانا، أن يبدأ بتعريف المصطلحات التي يستخدمها في بحثه ليقف القارئ على دلالاتها بيسر. فالاصطلاح تواضع واتفاق وليس إلهاما ولا تنزيلا، ولهذا قيل "لا مشاحة في الاصطلاح". وثالثا، إن تلك الاجتهادات كان دافعها تحقيق التماسك المصطلحي ودقة التعبير عن المفاهيم وذلك بتطبيق مبدإ التخلص من الترادف والاشتراك اللفظي ومبدإ الاقتصاد في اللغة الذي يحث على تفضيل المصطلح المفرد على المصطلح المركب.
وعلى الرغم من أن تلك الاجتهادات تستند إلى مبادئ مصطلحية متفق عليها، فإنها تتعارض في رأينا مع مبدإ مصطلحي آخر هو مبدأ الاستعمال والشيوع، الذي يشترط أن لا يتعارض المصطلح الجديد أو المفهوم الذي نخصه بمصطلح موجود مع ما هو مستعمل وشائع بين الناس أو بين المشتغلين في ذلك الحقل العلمي لئلا ينتج عن ذلك ازدواجية مصطلحية أو يتسبب في عرقلة عملية التواصل بين الناطقين بتلك اللغة. وقد يتساءل المرء عما يجب أن يفعله المصطلحي في حالة وجود تضارب أو تعارض بين مبدأين مصطلحيين أو أكثر. إن الحل المنطقي لهذا الإشكال يكمن ـ بلا شك ـ في ضرورة ترتيب تلك المبادئ طبقا لأهميتها وتقديم الأهم على المهم.
ولا نغالي إذا قلنا إن مبدأ الاستعمال والشيوع هو من أهم المبادئ المصطلحية إن لم يكن أهمها، لأن الغاية من استعمال المصطلحات هي تحقيق التواصل وتيسيره وعدم تعرض الرسالة إلى أي تشويش أو ضوضاء. وقد يحصل ذلك التشويش أو تلك الضوضاء من اختلاف المرسل والمتلقي في فهم مدلولات الرسالة. وقد يتحول هذا الاختلاف بينهما إلى خلاف (د. عز الدين البوشيخي، 1998: 22-27)
وهذا ما عبر عنه الدكتور مصطفى غلفان، في معرض نقده للمعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات، بقوله: "إن المفروض في معجم رسمي أن يدرس كل المصطلحات وأن يختار الشائع منها ليتم تعميمها وتوحيد اللسانيين العرب حول استعمالها، فهدف كل عمل اصطلاحي هو التوحيد أولا والابتكار ثانيا... كنا نريد لهذا المعجم أن يكون أساسا معجما موحدا، بيد أننا وجدناه يضيف متاعب أخرى للقارئ العربي من خلال اقتراحه مصطلحات لسانية جديدة مكان مصطلحات شاعت عربيا."(د.مصطفى غلفان، 1998 :149).
إن باب الاجتهاد في وضع المصطلحات أو إضفاء مفاهيم جديدة عليها مفتوح على مصراعيه، فاجتهاد اللغويين أو إبداع الشعراء والأدباء غالبا ما يؤدي إلى إثراء اللغة بمفردات وتعبيرات جديدة، ولكن يشترط أن تتوفر لهذا الاجتهاد الشروط اللازمة. وقد عني علماء المنطق والأصوليون كذلك بهذه الشروط. وفي هذا يؤكد عالم المنطق الدكتور طه عبد الرحمن أن المراد بالاصطلاح هو إطلاق اللفظ على المعنى، ويكون هذا الإطلاق باتفاق أفراد الجماعة أو"من فعل فرد واحد بأن يباشر من تلقاء نفسه هذا التخصيص لغرض تبليغي معين، وحق هذا الإطلاق الفردي أن يقبل التعدي إلى الغير. ويتعدى إطلاق اللفظ على المعنى إلى الغير متى كانت الاعتبارات البيانية التي أخذ بها الواضع الأول لهذا اللفظ تُفضي بغيره متى أخذ بها إلى أن يضع نفس اللفظ لنفس المعنى."(د.طه عبد الرحمن، 1999: 69).
وعلى الرغم من أن المجاز هو أهم وسائل إثراء المصطلحات وتنميتها، فإن نزع مصطلح من منظومة مفهومية ذات مرجعية معينة وإطلاقه على مفهوم ينتمي إلى منظومة مفهومية مشابهة تعتمد مرجعية مختلفة قد يؤدي إلى تعقيدات غير متوقعة. فـ (المعجم) في الاستعمال الشائع مصطلح ينتمي إلى مدرسة التراث اللساني العربي التي لها مرجعياتها الخاصة ومحاولة تخصيصه لمفهوم نابع من مدرسة لسانية غربية ذات مرجعيات مختلفة قد تسبب الإرباك، ويغدو تجنب صعوبة البحث الجاد عن مصطلح ملائم واللجوء إلى سهولة استعمال مصطلح موجود مجازا هو الصعوبة بعينها. وفي هذا يقول الدكتور فريد الإنصاري: " إن التجديد المصطلحي وإعمال مصطلحات التراث، لن يتم أبدا بتجاوز مرجعياتها، بل ذلك هو ما سيؤدي إلى موتها وهلاكها؛ لأن مرجعية المصطلح هي قلبه النابض الذي به يعيش، وإنما التجديد والإعمال رهين مواصلة البحث العلمي الجاد الذي يضيف إلى التراث ولا ينقصه."(د. فريد الأنصاري،2000: 26).
وفي الوقت الذي يؤكد فيه الدكتور عبد العلي الودغيري ضرورة الاهتمام بكل ما يطرأ على دلالات الألفاظ من تحول وتطور فإنه يضع شرطا هاما لذلك حين يقول: " على أن يكون المعيار هو كثرة الاستعمال. أما ما لم يشع ولم يكثر استعماله وتداوله فظل أمره مقصورا على كاتب بعينه أو شاعر بذاته أو متكلم وحيد من متكلمي اللغة، فهو ما ينبغي إهماله وعدم الالتفات إليه." (د. الودغيري، 1989 : 223-224). ونحن نتفق مع الصديق الدكتور الودغيري تمام الاتفاق، ولهذا فإننا سنلجأ إلى استقراء الاستعمال الشائع لمعاني (المعجم) و (القاموس).
520ـ(المعجم) و (القاموس) في الاستعمال المعاصر:
لمعرفة الاستعمال العربي المعاصر للفظي (معجم) و(قاموس) لا بد من دراسة إحصائية موضوعية. وهذا يتطلب الرجوع إلى جميع المعاجم والقواميس المتداولة في الوطن العربي للوقوف على كيفية استعمال مؤلفيها ـ وهم عادة من المتضلعين في اللغة ـ لهاتين اللفظتين. ومما ييسر هذه المهمة الإحصائية وجود ببليوغرافيا للمعاجم بعنوان "المراجع المعجمية العربية"( الثبيتي، 1989). وعلى الرغم من أن عمر هذه الببليوغرافيا ينيف على الأحد عشر عاما فإنها تعطينا فكرة تقريبية عن الاستعمال المعاصر للفظي (معجم) و(قاموس).
وبعد القيام بالإحصائية المطلوبة، تمكنا من تلخيصها (مع نسب مئوية تقريبية) في الجدول التالي تيسيرا لإطلاع القارئ على نتائجها:
ما لا يحمل أيّاً   من الاسمين
ما يحمل اسم (قاموس)
ما يحمل اسم (معجم)
المجموع
نوع العمل المعجمي
102
83 %
3
2 %
17
13 %
122
1. المعاجم والموسوعات الأحادية اللغة
56
38 %
73
49 %
18
12 %
147
2. المعاجم والموسوعات الثنائية ومتعددة اللغات
453
46 %
186
19 %
327
33%
966
3. المعاجم والموسوعات وقوائم المصطلحات المتخصصة
611
49%
262
21%
362
29%
1235
المجموع العام
































وبعد تدقيق النظر في هذه الإحصائية نستطيع الخروج بالملاحظات التالية:
1) شملت الإحصائية كاملة 1235 عملا معجميا، 362 منها (أي 29 ٪) تحمل في عنوانها لفظ (معجم)، و 262 منها( أي 21٪) تحمل في عنوانها لفظ ( قاموس). وإذا ما علمنا أن معظم البقية الباقية من هذه الأعمال المعجمية وعددها (610) ليست كتبا منشورة، وإنما مجرد مجموعات مصطلحية في حقل من الحقول العلمية نشرت في أعداد مجلة (اللسان العربي) التي تعنى بنشر المقابلات العربية التي يضعها الأساتذة والباحثون للمصطلحات الإنجليزية والفرنسية، وتحمل عناوين مثل (اصطلاحات الكيمياء الحيوية) أو (مصطلحات الفيزياء النووية)، أدركنا السبب في عدم استعمال اسم (معجم) أو (قاموس) فيها.
وهكذا، فمن بين 624 عملا معجميا يحمل أحد الاسمين، نجد أن 362 منها (أي بنسبة 58 ٪ ) يحمل اسم (معجم) و 262 منها (أي بنسبة ٪30 ) يحمل اسم (قاموس).
نستنتج من ذلك أن لفظي (معجم) و (قاموس) مترادفان في الاستعمال الشائع، وأن مصنفي الأعمال المعجمية يفضلون إطلاق اسم (معجم) عليها. ولعل هذا التفضيل عائد إلى إدراك الأغلبية حقيقة أن (معجم) هي الكلمة الأصلية في اللغة العربية وأن كلمة (قاموس) استعملت مجازا أو بتوسيع المعنى.
2) إذا ألقينا نظرة على الحقل الأول في الجدول الذي يشتمل على المعاجم والموسوعات الأحادية اللغة وعددها (122) عملا معجميا في هذه الببليوغرافيا، نجد أن أغلبيتها (102 بنسبة 83٪ ) لا تحمل في عنوانها اسم (معجم) ولا (قاموس)، وإنما تسير على التقليد العربي القديم في اختيار اسم علم لكل معجم مثل (البستان) لعبد الله البستاني و (المرجع) لعبد الله العلايلي و(المنجد) للويس معلوف وهلم جرا. أما الأعمال المعجمية التي حملت اسم (معجم) أو (قاموس) في عناوينها فعددها 20 مطبوعا، 17 منها ( أي ما نسبته 85٪ ) تحمل اسم (معجم) و 3 منها فقط (أي بنسبة 15 ٪ ) تحمل اسم (قاموس). وهذا مخالف تماما للاقتراح الداعي إلى تخصيص كلمة (معجم) لتدل على (المخزون المفرداتي المفترض للغة) أو على (الثروة اللفظية للمتكلم/ السامع)، وتخصيص كلمة (قاموس) لتدل على (الكتاب الذي يتضمن مداخل مرتبة ترتيبا معينا ومعلومات عنها). كما إن الاستعمال الشائع الذي تبينه لنا الإحصائية المذكورة مخالف كذلك ( بل معاكس تماما) للاقتراح الرامي إلى تخصيص كلمة (معجم) للمعاجم الثنائية اللغة وكلمة (قاموس) للمعاجم الأحادية اللغة التي تشتمل على تعاريف.
3) وإذا ألقينا نظرة على الحقل الثاني من الجدول الذي يضم المعاجم والموسوعات ثنائية اللغة ومتعددة اللغات، وعددها 147، نجد أن نصفها تقريبا (أي 73 عملا معجميا) يحمل اسم (قاموس) في العنوان، وأن قسما ضئيلا منها ( 18 مطبوعا فقط، أي بنسبة 12 ٪ ) يحمل اسم (معجم). ونستنتج من ذلك أن مصنفي المعاجم الثنائية اللغة يميلون إلى إطلاق اسم (قاموس) عليها تاركين اسم (المعجم) ليطلق على المعاجم الأحادية اللغة التي تشتمل مداخلها على تعاريف وليس مقابلات فقط. وهذا يخالف تماما التوجه الذي يجعل من كلمة (قاموس) دالة على المعاجم الأحادية اللغة.
600 ـ مقترحات لحل الإشكالية
رُبَّ قائل يقول مع القائل، وهو محق فيما يقول: "النقد يسير والإبداع عسير" ، وإن الصفحات السابقة وجهت النقد لاجتهادات الآخرين ولم تقدّم أي بديل، فلم تبتكر المصطلحات اللازمة للتعبير عن المفاهيم اللسانية الجديدة أو الأنواع المعجمية المستعملة. والبديل لا يكمن في مخيلة الكاتب وإنما في التراث الغني للغة العربية. فبالعودة إلى اللغة العربية المستعملة والبحث فيها نجد ضالتنا من المصطلحات اللازمة.
610 ـ المتن والرصيد
إن مفهوم (المخزون أو المجموع المفرداتي المفترض للغة) هو ما عُبر عنه بلفظ (متن اللغة) أو (المتن). ولهذا فإن عددا من أصحاب المعاجم اختاروا عناوين تدل على أن مداخل معاجمهم هي مختارات من المخزون اللفظي للغة العربية ولا يدعون الإحاطة بجميع مفرداتها. فعلي سبيل المثال نجد معجما يحمل عنوان (معجم الطالب في المأنوس من متن اللغة العربية والاصطلاحات العلمية والعصرية) لجرجس همام الشويري صدر عن المطبعة العثمانية في بيروت عام 1907 ويقع في 1272 صفحة، ونجد معجما آخر يحمل عنوان (المعتمد فيما يحتاج إليه المتأدبون والمنشئون من متن اللغة) لجرجي شاهين عطية، نشرته مكتبة صادر في بيروت عام 1927 ويقع في 1024صفحة. وهذا المصطلح (أي المتن) هو الذي اعتمده "المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات"، مع تحفظنا على عدد من مصطلحات هذا المعجم التي لن تصمد بوجه الاستعمال والشيوع.
أما مفهوم الثروة اللفظية للفرد أو " المخزون المفرداتي الذي يمثل جزءا من قدرة المتكلم/ المستمع اللغوية" فيُطلق عليه عادة مصطلح (الرصيد). وفي السبعينات من القرن العشرين عهدت المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة إلى ثلاثة من اللغويين العرب هم أحمد الأخضر غزال (مغربي) وأحمد العايد (تونسي) والحاج صالح (جزائري) بمشروع (الرصيد اللغوي) لحصر المفردات المتحققة لدى الأطفال في سن معينة لاستثمارها في الكتب المدرسية التي تؤلَّف لفائدتهم من أجل تطوير معارفهم اللغوية باتباع المبدإ التربوي القاضي بالانتقال من المعلوم إلى المجهول ومن البسيط إلى المركب. كما إن هذا المصطلح شائع لدى عدد كبير من الباحثين اللغويين. كما ظهر هذا المصطلح بهذا المفهوم في "المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات"؟
620 ـ نتائج الدراسة الإحصائية
رأينا من الإحصائية التي أجريناها للاستعمال المعاصر أن (معجم) و(قاموس) يستخدمان بوصفهما لفظين مترادفين. وفي الوقت نفسه يغلب إطلاق اسم (معجم) على المعاجم الأحادية اللغة ويغلب إطلاق اسم (قاموس) على المعاجم الثنائية اللغة.
700 ـ حقول مفهومية متقاربة
يفرقون في اللسانيات الغربية بين ثنائيات في ميدان العمل المعجمي منها:( Lexicology and lexicography)، ومنها Terminology and)Terminography) . ويكمن الفرق بين مفردتي كل ثنائية في اللاحقتين: (Logy)ذات الأصل الإغريقي التي تعني دراسة أو علماً و graphy) ) التي تشير إلى الكتابة والخطاطة. وأصبحت اللاحقتان تدلان في اللغات الأوربية اليوم على العلم نفسه وتوثيق نتائجه.وقد انتقلت بعض هذه الثنائيات إلى الدرس اللساني العربي الحديث، فوضع له عدد من اللسانيين العرب مقابلات مختلفة.
710ـ المعجمية، علم المعجم، صناعة المعجم
فيما يتعلق بالثنائية الأولى Lexicologie et lexicogrphie فإن المصطلح الأول يشير إلى علم المفردات الذي يهتم بدراسة الألفاظ من حيث اشتقاقها، وأبنيتها، ودلالاتها، وكذلك بالمترادفات والمشتركات اللفظية والتعابير الاصطلاحية والسياقية. وهكذا فعلم المفردات يهيئ المعلومات الوافية عن المواد التي تدخل في المعجم. أما المصطلح الثاني فيخصص لصناعة المعجم التي تشتمل على خمس خطوات رئيسة هي: جمع المعلومات والحقائق، واختيار المداخل، وترتيبها طبقا لنظام معين، وكتابة المواد، ثم نشر النتاج النهائي (القاسمي،1991 : 3).
وبالاطلاع على المصطلحات العربية المستعملة في الميدان المعجمي، نستطيع القول إن مصطلح (المعجمية) يستعمل لتغطية كلا المجالين. وأما الدراسات المتعلقة بعلم المفردات فتنصب على البحث في معجم اللغة العربية أو متنها ولهذا يمكن أن تسمى هذه الدراسات بـ (علم المعجم). وأما مصطلح (صناعة المعجم) فهو مختص دائما بالشق الثاني من الثنائية المذكورة.
وهكذا يمكن أن نستعمل الشكل التالي:
المعجمية

علم المعجم                       صناعة المعجم

720 ـ المصطلحية، علم المصطلح، صناعة المصطلح
يتعلق الشق الأول من الثنائية الثانية، أي terminologie et terminography بالعلم الذي يبحث في العلاقة بين المفاهيم العلمية والمصطلحات اللغوية التي تعبر عنها. ولكن الاستفادة من البحث الذي يضطلع به علماء المصطلح يتطلب توثيق المصطلحات. وللتوثيق ثلاثة جوانب: توثيق مصادر المصطلحات، وتوثيق المصطلحات، وتوثيق المعلومات عن المؤسسات المصطلحية. ويتم التوثيق باتباع أربع خطوات هي: تجميع المعلومات المتعلقة بالمصطلحات، وتسجيلها، ومعالجتها، ونشرها (القاسمي، 1985 : 17-35). وهذه الخطوات تذكرنا بالعمليات اللازمة لنشر المعجم التي يطلق عليها مصطلح (صناعة المعجم). ولهذا يمكن أن نستخدم مصطلح (صناعة المصطلح) للدلالة على التوثيق المصطلحي. أما (المصطلحية) فتشمل علم المصطلح وصناعة المصطلح. وهكذا ننتهي إلى الشكل التالي:
المصطلحية

علم المصطلح                      صناعة المصطلح

800 ـ الخاتمة
ليس هناك من سبب يدعونا إلى القلق على مصير المصطلحات في اللغة العربية، فالزمن والاستعمال كفيلان بالإبقاء على المصطلح الأصلح، واللغة العربية قادرة على استيعاب المفاهيم الجديدة وتمثلها. وما هذه الدراسة إلا محاولة لاستقراء الاستعمال والشيوع المتعلقين بمصطلحات معجمية مثل: معجم، وقاموس، ومتن، و رصيد.


المراجع والمصادر
إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ ( القاهرة : الكتبة الأنجلو-مصرية، 1976)
أحمد الشرقاوي إقبال، معجم المعاجم (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1987)
جواد حسني عبد الرحيم سماعنه، "المصطلحية العربية بين القديم والحديث" أطروحة لنيل دكتوراه الدولة من شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1999.
الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين (بغداد: دار الرشيد للنشر،1980) تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي.
طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة 2: القول الفلسفي (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،1999)
عباس الصوري، " في الممارسة المعجمية للمتن اللغوي" في اللسان العربي، العدد 45 (1998) 9-32.
عبد العلي الودغيري، قضايا المعجم العربي في كتابات ابن الطيب الشرقي (الرباط: منشورات عكاظ،1989)
عبد العلي الودغيري، " قضية الفصاحة في القاموس العربي التاريخي" في اللسان العربي، العدد 33 (1989) 119-134.
عبد القادر الفاسي الفهري، " تعريب اللغة وتعريب الثقافة" في المجلة العربية للدراسات اللغوية، عدد أغسطس (1985).
عبد القادر الفاسي الفهري، المعجم العربي ( الدار البيضاء: توبقال للنشر، 1986)
عبد الله ولد محمد عبد المالك، " قضية التعريف في القواميس العربية الحديثة" بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا من شعبة اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1999
عز الدين البوشيخي، "خصائص الصناعة المعجمية الحديثة وأهدافها العلمية والتكنولوجية" في اللسان العربي، العدد 46(1998) 22-27.
علي القاسمي، علم اللغة وصناعة المعجم ( الرياض: جامعة الرياض، 1975،1991)
علي القاسمي، مقدمة في علم المصطلح ( بغداد: الموسوعة الصغيرة،1985، القاهرة، 1989)
ليلى المسعودي، "ملاحظات حول معجم الدبلوماسية والشؤون الدولية" في اللسان العربي، العدد 46 (1998) 164-177
فريد الأنصاري، " أزمة المصطلح التراثي في الفكر العربي المعاصر" في الفيصل، العدد 280(2000) 23-27.
مسفر سعيد الثبيتي، المراجع المعجمية العربية (بيروت: مكتبة لبنان1989)
مصطفى غلفان، "المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات: أي مصطلح لأي لسانيات؟" في اللسان العربي، العدد 46 (1998)146-163.
فهرس

100المشكلة: 1
200المعجم 1
210 تسمية المعاجم في التراث العربي 2
300القاموس 2
400المعجم والقاموس 3
410 مفردات الأمة ومفردات الكتاب: 3
420 - مفردات الفرد ومفردات الكتاب: 4
430المعجم الأحادي اللغة والمعجم الثنائي اللغة: 4
500 التراتيبية في المبادئ المصطلحية 4
520ـ(المعجم) و (القاموس) في الاستعمال المعاصر: 5
600 مقترحات لحل الإشكالية 6
610 المتن والرصيد 6
620 نتائج الدراسة الإحصائية 7
700 حقول مفهومية متقاربة 7
710 المعجمية، علم المعجم، صناعة المعجم 7
720 المصطلحية، علم المصطلح، صناعة المصطلح 9
800 الخاتمة 11
المراجع والمصادر12
- مجلة اللسان العربي
لسانيات النص
والمتلقي

أ. د. عبد الجليل غزالة
أوليات الموضوع :

كيف تتوزع انشغالات ومقاربات لسانيات النص textual linguistics على المستوى النظري والعملي ؟ ما علاقة هذا المجال بمفهوم (( تحليل المضمون )) ؟ ما الوسائل التي شاعت في هذا التخصص بالنسبة لتحليل الخطابات المتنوعة الأجناس ؟ هل تجاوزت القضايا والموضوعات والمنهجيات التي توظفها هذه اللسانيات الطرح البنيوي والتوليدي ؟ كيف يعالج هذا القطاع مفهوم (( الكون الخطابي )) ؟ كيف تتجلى عناصر المعالجات الذهنية داخل هذا الميدان ؟ ما علاقتها بالمتلقي ومسار تحكمه في النصوص التي يقرؤها ويدركها ويفسرها ؟

انشغالات لسانيات النص ومقارباتها العلمية :
ترتكز لسانيات النص ، أثناء اشتغالاتها ومقارباتها العلمية الخاصة، على منهجية لغوية متميزة، تعالج من خلالها الخطابات المختلفة الأجناس. إنها تؤسس طريقتها على عدة مبادئ وعناصر نبعت من عمل معرفي دؤوب وعميق، ورثته عن تراكم الأزمنة المنصرمة.
لذلك فإن اشتغالات ومقاربات هذه اللسانيات تتوزع على المستوى النظري والعملي إلى موضوعات topics مهمة جدا :
1 _ معالجة (( الكون الخطابي )) discourse universeللمتن المدروس بكل ظروف إنتاجه وسياقاته وفضاءاته الزمكانية .
2 _ تحليل المضمون ومقاصده التداولية pragmatics .
3 _ مقاربة الواقع غير اللغوي داخل المتن corpus متجاوزة بذلك الطرح اللساني البنيوي ، الداخلي ، التصنيفي ، المغلق للنصوص المتنوعة .
4 _ تحليل الموضوعات الخطابية ( = النصية ) بالاستناد إلى طرائق غير لغوية .
5 _ اعتماد بعض مفاهيم فردينان دو سوسير اللسانية البنيوية وفتحها على نظرية الخطاب المعاصرة .
6 _ استخدام منهجية الكشف الترددي _ الإحصائي .
لقد تطورت اللسانيات المعاصرة ، انطلاقا من أعمال العالم السويسري فردينان دوسوسير ؛ صاحب كتاب ( محاضرات في اللسانيات العامة ) ، الذي يعد عمدة هذا العلم وسفره الأعظم دون منازع . كانت الدراسات اللغوية السابقة المتعلقة بالنصوص الأدبية ذات طابع مدرسي ، حيث إنها كانت تسلك مسلكا نحويا معياريا ، يثير بعض الأسئلة البسيطة المتزامنة حول العمل المدروس . لذلك كانت تنعت ب(( تفسير النصوص )) . نذكر من هذه الأسئلة ما يلي :
أ _ ما الموضوعات themes والقضايا الخطابية التي يطرحها الإنتاج الأدبي ؟
ب _ ماهي قواعد (( نحو النص )) textual grammar الخاصة بكل عمل مدروس ؟
ج _ ما نوع بناه التركيبية والدلالية وخصائصها الجمالية والفكرية والفنية ؟
د _ كيف تتجلى سلطة الكاتب وسلطة النص وسلطة المتلقي ؟
كانت اللسانيات القديمة تهتم بطرق التعبير وقواعده ، أما الدراسة النحوية فإنها كانت تؤثر استخدام وسائل خاصة وتحقيق أهداف معينة تتوخى فهم النص.
تحرك لسانيات النص اللغة كنسق علمي متميز العلاقات والوظائف ، مما يسمح للمستخدم باستعمال آليات تضبط وتفسر وتحدد العناصر الصغرى المكونة للنص . لذلك فإن الخطاب الأدبي لا يعمل أبدا لو لم تكن هناك لغة واصفة metalanguage خاصة تحركه . يمثل النص الأدبي إذن كيانا فارغا يبابا من دون لغة تعمره وتبعث فيه الحياة والبناء والتطور والنمو .
لقد قدم (( تحليل المضمون )) أو (( تحليل النص )) أجوبة مختلفة تخص الأسئلة المذكورة آنفا ، مما جعل الممارسات والطرائق في التناول والمقاربة اللسانية تتنوع كثيرا . كما أن التراجع الذي شهدته بعض المنهجيات والمدارس والتيارات اللسانية على مر العصور هو أكبر دليل على نقصها وقصورها . يسري الأمر عينه على كل المنهجيات والمدارس والتيارات الفكرية الأخرى التي يبزغ نجمها ويذيع صيتها ، ثم يأفل بعد حين من الدهر فتصبح نسيا منسيا .
انتشر مفهوم (( تحليل المضمون )) contenent analysis بكل بساطة في حيز غاب عن نظر اللسانيات البنيوية ، لكن علم الاجتماع كان يرتع فيه بكل أمان وحرية . يسعى هذا المجال إلى تطبيق منهجية دقيقة من أجل معالجة التكوين المستمر الذي يحدث داخل النصوص المتنوعة بواسطة (( شبكة )) من القراءات الموضوعية ، التي تفسر نتائجها تبعا لمسار محدد :
1 _ التوفر على موسوعة من المقولات مبنية بإحكام ، حيث تستخدم لتعميم التنوع الحاصل على (( سطح النص )) حتى تتسنى المقارنة بينها .
2 _ ضبط المظاهر النصية في البداية كيفيا ، ثم كميا .
3 _ إقامة بناء نصي واضح بالاعتماد على الإحصاءات المعجمية والتراكيب الأساسية .
4 _ تمييز المتن المدروس بشكل تجريبي يستخدم لغة واصفة خاصة .
يمكن القول أن لسانيات النص قد قدمت أجوبة جديدة تهم تلك الأسئلة القديمة الخاصة بتفسير الخطابات المتنوعة ، مما خلق تصورا للتحليل ينعت ب(( ما بعد سوسير )) . سيطر البعد التجريبي والعملي على هذا القطاع اللغوي بقوة رفقة أسئلة أخرى تعد أكثر إلحاحا وعمقا ودلالة :
أ _ ما العلامات السيميائية والمقاصد التداولية التي تتحكم في الخطاب المدروس ؟
ب _ ما أنواع الدلالات والسياقات التي تحرك (( الكون النصي )) ؟
ج _ كيف يختلف معنى نص عن معنى نص آخر ؟

إن كل التراث الموجود لدينا اليوم في مجال اللسانيات ينشطر إلى شطرين كبيرين :
1 _ لسانيات غير نصية : تتبنى أطروحات لغوية صرفة فقط ( بنيوية + توليدية ) .
2 _ لسانيات نصية : تهتم بدراسة الواقعين ؛ اللغوي وغير اللغوي للعمل ( الكون النصي ، السياق ، الأبعاد النفسية والاجتماعية الخاصة بعملية الإنتاج للنصوص ) .
شاعت في مجال لسانيات النص عدة طرق ووسائل لتحليل النصوص المتنوعة الأجناس ، فمنها من يوظف تقنيات خاصة بقطاع تحليل الخطاب ( 1 ) ، ومنها من يستعين بالنظرية التداولية ، ومنها من يولي وجهه شطر السميائيات ونظريات التلقي والاتصال والسيكولسانيات psycholinguisticsوالسوسيولسانيات sociolinguistics ( 2 ) .
وظف ( زليج هاريس ) أثناء معالجته لتحليل الخطاب الاشهاري الأمريكي طريقة ( فئات التعادل ) الواقعة بين جمل النص الدعائي ( 3 ) . كما بلور ( شارل مولر ) طريقة أخرى تهتم بالإحصاء المعجمي للكلمات المتطابقة ، وهو ما يؤسس مجال(( تخطيب النص )) ( 4) ويطور الأجهزة الإحصائية المتعلقة بالمعالجة الإعلامية ( علاقة : درجة / تردد ) . يتم في هذا المجال تحديد الترددات recursions والتكرارات repetitionsالمتطابقة ومقارنتها بترددات وتكرارات أخرى . يفحص هذا الإنجاز اللساني المقابلات الموجودة بين المداخل المعجمية ، المنتمية إلى نفس المتوالية النصية ، أو إلى متواليات أخرى ترتبط بالمدخل المعجمي ذاته ( 5 ) .
لذلك فإن لسانيات النص قد تجاوزت طرح سوسير ، الذي يمنح العلاقة القائمة بين الدال والمدلول تفردا كبيرا ، فبلورتها من خلال معالجة موضوع تعدد المعاني من المنظور الدلالي الموسع . نجدها تهتم في هذا المنحى بالقضايا والموضوعات التالية :
أ _ المشترك اللفظي أو الجناس homonym
ب _ الترادف synonym أو الوجوه والنظائر .
ج _ الأضداد / التقابلات contraries / oppositions
د _ التكرار أو التردد repetitions
مازالت المنهجيات التي توظفها لسانيات النص المعاصرة تعاني من بعض التشتت المعرفي وغياب الإحاطة الشاملة بطرائق وتقنيات تنظيم النص وشبكة العلاقات ، الرابطة بين عناصره . يجري الأمر هنا كما لو أن (( سطح النص )) يمثل مجموعة من السكان الذين يتم إحصاؤهم بشكل فردي ينشد الدقة ، التي تفرط في أثر المعني المؤسس لمضمون الخطاب المحلل ( 6 ) .
لا تحل (( المنهجية الإحصائية )) العمرانية demography قضية المعنى واختلافاته من نص إلى آخر . يسعى (( تحليل المضمون )) عند كارترايت إلى الإجابة عن هذه النقطة . فالنص يمثل بالنسبة له سلسلة من الدلالات ذات مؤشرات خاصة يكتشفها الشخص الذي ينظمه بشكل تدريجي . لذلك فإن فك رموز نص معين يعني هنا وضعه ضمن مستوى الدلالة ، المتعلق بفئات التعادل . يستعمل لهذا الغرض جدول تحليلي ، بناء على حكم الشخص المنظم للنص ، فيما يخص الحضور والغياب أو قوة عرض هذا المحمول أو ذاك . تظهر بعض الجوانب المهمة في هذه المرحلة من عمل لسانيات النص :
1 _ وجود مؤشرات غير محددة بالنسبة للسانيات غير النصية  مثل اللفظة  العبارة المتوالية، الموضوع الخطابي topic / theme .
2 _ تكامل الصفات النفسية، مثل : الذكاء ، الحساسية ، مرونة الشخص الذي ينظم النص .
3 _ التكيف والتفاعل الاجتماعي .
4 – وجود أشخاص منظمين للنصوص متمرسين جيدا .
5 _ توفر نظرية للتلقي جلية المعالم .
يؤدي هذا العمل (( الجماعي )) المنظم إلى وجود قواعد عامة ونسق مرجعي ، أثناء العمل . يتفق المنظمون للنصوص على صيغها وطرق قراءتها وتلقيها reception ، (( فلا يمكن تحليل نص معين إلا في إطار نسق من القيم المشتركة ، الحاملة لمعنى يتعلق بالمنظمين وشأن طريقتهم في القراءة والتلقي )) ( 7 ) .
إن المنهجيات التي تعتمد عليها لسانيات النص ليست لسانية بنيوية structuralداخلية مغلقة ، أو توليدية generative، تتجاوز البني اللغوية السطحية الظاهرة لتغوص في تأويلات مقعدة تخص البنى العميقة المضمرة ومعرفة المتكلم المثالي _ المتخيل بلغته ، بل إنها تحمل أبعادا غير لغوية تنتمي إلى المجال النفسي والاجتماعي والسيميائي والعرقي ethnographyوالسلالي ethnologyوالسردي narrative وغيره ( 8 ) .
يفترض التحليل الوثائقي منذ البداية تحديد (( فئات التعادل )) equivalent class بصورة جوهرية تستند إلى قاعدة نسقية و تهتم بصيغ معينة ، تدرج المعلومات الضرورية في الذهن ؛ أي تلك التي ترتبط بتحليل وثيقة معينة .
تمثل عملية إنتاج الخطابات المتنوعة التي تعالجها لسانيات النص مجموعة من الاواليات الصورية التي تبني النصوص ضمن ظروف خاصة . لذلك فإن دراسة عملية إنتاج النصوص تطرح نسقين يرتبطان بالبحث في هذا المجال اللساني :
أ _ نسق التنوعات ( دلالية ، نصية ، تداولية ) ( 9 ) .
ب _ نسق (( الكون الخطابي )) : يضم ظروف الإنتاج والسياق والفضاء الزمكاني للنص المدروس .
تملك الأنظمة اللغوية وغير اللغوية البانية للمتون التي تقاربها لسانيات النص مجموعة من الوظائف التي يفعلها الخطاب العملي التداولي . يصبح النص المدروس هنا عبارة عن (( جنين )) ينمو باستمرار خلال مراحل تكون الخطاب ؛ أي منذ البداية وحتى النهاية . إنه يتحرك على مستوى الإنجاز ضمن نسق جمالي وفكري وفني ، مستندا إلى (( حرية المتكلم )) وتنميطاته modalizations ، المتنوعة الحالات .
يشكل الخطاب المدروس بالنسبة لهذه اللسانيات إوالية خاصة وتفاعلات تداولية pragmatics ، تحركها قواعد خالصة ، ترتبط ببنى أيديولوجية سياسية واجتماعية ، ذات ظروف إنتاج محددة ، بناء على الأقوال speech acts والأفعال الإنجازية performative verbs كما حددها ج . أوستين.
يعد موقع المتكلم جوهريا في مجال لسانيات النص ، الأمر الذي يدفعه ضمن
عملية التلفظ إلى اختبار موقع المخاطب ، مما يجعل عمله فاصلا بالنسبة لتخيل المخاطب وتوقعاته وحدسه ، وهو ما يؤسس الخطاب المنشود بكل مقاماته ومقاصده .
تتعامل لسانيات النص مع عدة ظواهر وقضايا دلالية propositionsوموضوعات خطابيةtopics تمثل أفعالا واشتغالات خاصة ، تعتمد على وجود (( كون خطابي )) يرتبط بالسياقات والفضاءات الزمكانية المتعددة بالإضافة إلى تعاملها مع الأبعاد اللسانية الداخلية ، المغلقة ، التصنيفية المعروفة عند البنويين والتوليديين اللسانيين الأوائل .
يقوم (( الكون الخطابي )) بخلق عدة سياقات ومواقف ، تولد مجموعة من
الخطابات المتنوعة دلاليا وبلاغيا . لا يمكن تحليل الخطاب المدروس على أنه نص أو متوالية sequenceمغلقة على نفسها ، بل باعتباره مجموعة من الترابطات والعلاقات التركيبية والدلالية والمقامية .
تمثل النصوص التي تعالجها هذه اللسانيات مجموعة من الخطابات الواقعية الفعلية النابعة من مواقف خاصة ، ترتبط بظروف انتاج وسياقات وفضاءات بانية ل(( كون ))
univers فكري معين .
مازالت لسانيات النص ، التي انضمت مؤخرا إلى كوكبة الإشكاليات اللسانية المعاصرة ، لم تتجاوز بعض الأوليات والصعوبات المزمنة ، المتمثلة في :
أ – بناء منهجية خالصة يتفرد بها حقلها المعرفي ، دون ترقيع أو استطرادات أو تكامل .
ب _ تأسيس موضوع دراسة رصين ومتسق .
ج _ خلق التجانس والوحدة النظرية بين مكونات وعناصر المجال اللساني الخاص .
تظهر أحيانا على السطح بعض الطفيليات والاقتباسات والتداخلات مع الحقول والمفاهيم والتصورات والمنهجيات الأخرى ، مما يقصي توفر صرامة علمية كافية بالنسبة لأغلب المقاربات النصية . نجدها تقتبس كثيرا من نظرية التلفظ والتداول والدلالة بالاعتماد على أعمال زليج هاريس ورومان جاكبسون وإميل بنفنيست وغيرهم .
لقد درس زليج هاريس ، في إطار تحليله للخطاب الاشهاري بأمريكا ، متواليات لغوية وملفوظات clauses مترابطة ومتعادلة ، تتجاوز حدود الجملة الواحدة المعزولة عن السياق ، فكان بذلك أول لساني توزيعي يذيع بشكل منسق قواعد لسانيات النص . لكن الملاحظ في بناء الإطار النظري لهذه اللسانيات الجديدة هو اختلاف السياق الأيديولوجي والمسلمات والمنهجيات بين أربابها المنتشرين في القارتين الأوروبية والأمريكية . لذلك ، فإن طريقة إميل بنفنيست وجاكبسون تخالف طريقة زليج هاريس كثيرا : إنهما كانا يبحثان جاهدين عن طرق تنميط المتكلم لخطاباته ، من خلال تحمله المسؤولية أم لا ، أثناء عملية التلفظ . يرى بنفنيست أن المتكلم يضع بعض الشروط والقيود بالنسبة لعلاقته بملفوظه وبالعالم . لقد ساعد هذا التصور الجديد على تأسيس لسانيات النص والخطاب عن طريق بوابة نظرية التلفظ ( 10 ) . برزت على إثر ذلك رؤية متطورة لمعالجة النصوص :
أ _ مقاربة تضمينات واقتضاءات النصوص المتنوعة .
ب _ بلورة مقاصد المتكلم بالنسبة للنص .
ج _ الاواليات والتفاعلات الخاصة بالملفوظات اللسانية .
د _ المواقف والسياقات والمقامات المرتبطة بالخطاب .
تهتم لسانيات النص عند مقاربة المتون المتنوعة بإبراز وتأويل أبعادها اللسانية الداخلية الصرفة immanente والاجتماعية والنفسية . إنها تدرس المضامين باستخدام نظرية خطابية خاصة تمثل في هذا المنحى علامة تحول بارز بالنسبة لقوانين النص وسلطه القديمة المعروفة .
تكثر التعاريف والتحديدات المتناقضة والمتداخلة ، المستوردة من حقول معرفية متنوعة . لكن الأرجح عند المتخصصين هو استعمال مفهوم ( النص ) كمعطى عملي _ متنوع الاشتغالات التداولية ، مما يؤهله لترويج إنجازات فعلية محددة المقاصد والدلالات .
لذلك فإن الاشتغالات والمقاربات النصية تراعي في هذا الحقل العلمي جل الخصائص الجمالية والفكرية والفنية ، المرتبطة بالملفوظات الاتفاقية الدالة conventionalوالمواقف والسياقات الاتصالية بين المتخاطبين ، مما يؤسس خطابات ذات خصائص ودلالات معينة .
تتعدد وتتكرر الدراسات والبحوث اللسانية النصية التي تستخدم مقاربات قد ذاع صيتها وانتشر عطاؤها الجديد منذ أمد ليس بالبعيد :
1 _ المقاربة التركيبية .
2 _ المقاربة المعجمية الإحصائية .
3 _ المقاربة التلفظية .
4 _ المقاربة النصية .
يتفق الباحثون والمتخصصون في مجال لسانيات النص بأن الاشتغالات والمقاربات الحقيقية في هذا المجال تدور حول دراسة متواليات طويلة مترابطة ومتراصة ، تتجاوز حدود الجملة الواحدة الحاملة للمعنى التام ، الذي يحسن السكوت عنه . لذلك فإن هذه الاشتغالات النصية تهتم هنا بمستوى الفقرة والصفحات المتعددة المتراصة والعبارات التابعة لبعضها والحكاية المترابطة العناصر والتسلسل الجملي .
لا تهتم المقاربة المعجمية الإحصائية كثيرا بالبنى الفعلية للملفوظات النصية . كما أن المقاربة التركيبية – التوزيعية قد تقوض بعض النصوص وتهدم كيانها ، مثلما نجد عند زليج هاريس . تتعلق المشكلة في هذا المستوى بثنائية : الجملة / النص ، حيث يقع التعامل مع الأعمال المتنوعة من منظور دلالي بصورة لاشعورية . يتم ضبط النص فيصبح سطحه موحدا ويقصى هنا تعدد الأصوات والصيغ والأزمنة والاقتضاء والتضمين والتنظير الخطابي . يتحرك الجانب الأيديولوجي من خلال موضوعات الاقتضاء والتضمين ، أكثر مما هو عليه بالنسبة لمضمون الوحدات المعجمية ( 11 ) .
لا يعتد الباحثون المتخصصون في هذا المجال اللساني كثيرا بالبناء الكلي للنصوص وقوانين تطوره ، مما يجعل أمر اللجوء إلى عملية الاستدلال والبرهنة ضرورية لمعرفة جوانب الترابط الداخلي . لذلك فإن لسانيات النص تهتم في الأساس :
أ _ بالعمليات الدلالية ، من خلال أبعادها النصية .
ب _ بالسياقات المتنوعة في علاقتها بالاستدلال والبرهنة ومواقع القول .
د _ بالقيود الخارجية ، التي تضبط عمليات البناء والترابط داخل النصوص .
تتنوع استفادات لسانيات النص كما أسلفنا من منهجيات تداولية pragmaticsواجتماعية ( وليام لايبوف ، جوشوا فيشمان وغيرهما ) ولسانية تركيبية ونظريات أخرى تهتم بالأبعاد الاتصالية اللغوية ( رومان جاكبسون وأتباعه ) .
تتعرض هذه اللسانيات إلى نصوص مكتوبة ومروية ، تتنوع فيها الاشتغالات بين اللغة المكتوبة والمحكية . لقد درست في هذا المستوى العلاقات والفروق الشكلية بين اللغتين وتم التمييز بين عدة مفاهيم : الجملة / المتوالية ، النص/ الخطاب ، الحكاية / الأسطورة ، التلفظ / الملفوظ . لقد استخدمت عدة قواعد قياسية نصية خلاقة creativeومنتهية ، تستند إلى السياقcontext .
تهتم لسانيات النص بكل المتكلمين والمتحاورين والمساهمين في عملية الاتصال ، الحاصلة بين طيات النصوص المتنوعة . إنها تنطلق في البداية من مقاربة لسانية وصفية شكلانية ، ثم تتداخل الحقول اللسانية مع تطبيق بعض القيود عليها . يثير الكتاب والمتكلمون والساردون موضوعات وفرضيات ومعلومات ذات بنى معينة ، تخص العمل المدروس . كما يستعملون الإحالات والضمائر العائدة المتنوعة anaphoria ، مما يدفع المتلقي إلى تطويق العمل بآليات التأويل والاستنتاج . تعتمد هذه اللسانيات على دراسة الظواهر من خلال سياقات الاتصال بمنهجية واقعية ، متفادية كل طرح فردي خاص . لذلك تتم هنا دراسة المظاهر اللغوية المعبرة عن المضامين النصية ، ذات الوظيفة التعاملية والمظاهر المعبرة عن العلاقات والمواقف الاجتماعية والشخصية ، ذات الوظيفة التفاعلية . يحدد هذا النمط من الدراسة اللسانية سمات الباحث أوالمحلل في مجال لسانيات النص :
1 _ اهتمام الباحث في هذا التخصص بالتسجيل الصوتي وطرح الملامح التقطيعية والتطريزية والملاحظات المرتبطة بسياقات العمل المحلل .
2 _ ربط مفهوم النص كتسجيل لفظي للحدث الاتصالي بالتجربة الشخصية نظرا للاختلافات بين الأفراد في هذا المستوى .
3 _ افتراض التجانس بين وجهات النظر من أجل تحقيق التفاهم .
تعالج هذه اللسانيات دور السياق وملامحه في عملية الفهم والتأويل والقياس للنصوص المتنوعة ، حيث تركز على السياق النصي والسياق الموسع ( 12 ) . كما تستند إلى عملية الإحالة والافتراض والاستنتاج والمقام . إنها تطرح موضوعات وإشكاليات تتعلق بتمثيل مضمون الخطاب ، بناء على مقاطعه وفقراته من أجل ضبط وتحديد تلون مفهوم الموضوع الخطابيtopic وتصوير محتواه ومشكلات قضاياه الدلالية .
تطرح لسانيات النص تحديدا جديدا لمفهوم ((الجملة )) ، حيث تربطه بمستوى الكلام والإنجاز ، وليس بمستوى اللغة أو القدرةcompetence اللسانية . إنها تتعرض إليها من خلال افتراضاتها المسبقة وملاءمتها الحوارية للموضوع المطروح ، الذي يبلوره المتكلم . كما تعالج علامات الترقيم والتنغيم التي تبرز حدود الموضوعات والفقرات .
تسلك هذه اللسانيات منحى ذهنيا جديدا بالنسبة لتحديد محتوى الخطابات المحللة ، حيث توسع وتغربل أطروحات نحو الجملة . يتم تمثيل النص المدروس من خلال شبكة من العلاقات التركيبية والدلالية بين الجمل المترابطة والفقرات المتراصة كما في القول التالي :
كان صاروخ هائل لونه أسود وأصفر منصوبا في صحراء العراق .

هائل أسود و
أصفر
أداة تفكير


أداة التنكير
صاروخ كان منصوبا
في
صحراء



تصبح العلاقات النحوية في الشبكة علاقات تصورية :

أصفر
أسود


أسود


صاروخ


منصوب موقع
في
صحراء



تتعقد الشبكة التصورية بالنسبة لهذا التحليل عندما يكون النص طويلا مثخنا بالتفاصيل . كما أن تمثيل الموضوع يبرز بالاعتماد على المقاطع النصية المذكورة ، حيث إن أن كلمة ( الصاروخ ) تشكل حلقة مشتركة بين كل الجمل النصية :


قدم

منتصب
صحراء
العراق


أصفر
طوله

فارغ
طن
خمسة


في

قدر+مادة
وزن
أسود صاروخ
الكحول
طن

هائل
يحمل
وقود


أوكسجين
سائل



( عن كتاب : النص والخطاب والعمل لصاحبه دي بوجراند ، لندن ، لونغمان 1980 ، الصفحات 43 و 93 ) .
تتنوع القضايا والموضوعات الخطابية التي تعالجها لسانيات النص ، حيث نجد موضوع عملية الإخراج staging والتصور الذهني للنصوص ، الذي يطرح مشكلة تسلسل القول داخل الأعمال المحللة وعلاقتها بالموضوع الخطابي topic وبأفكاره الأساسية وجوهره وعملية صياغة المعلومة أو المحمول النصي textualcomment وإخراجه .كما أنها تتعرض هنا إلى دور النظام الطبيعي للنصوص عند عرض الوقائع المترابطة المحكية .
يطرح بناء المعلومات النصية من منظور صوتي وظيفيphonological وذهني متميز جدا . إنها تصنف إلى معلومات جديدة وقديمة من منظور تنغيمي يحدد وحداتها ومقاطعها اللفظية ، ذات النبرات الخاصة ، مثلما نجد عند هاليداي ورقية حسن (13) . يتم من هذا المنظور الصوتي المتطور تحديد النغمة واللفظة ومواطن الوقف الصوتي ووظيفة الطبقة الصوتية عند البروز . تعالج لسانيات النص طرق التركيب النحوي للجمل المترابطة والمتواليات المتنوعة والفقرات المسترسلة ، من خلال وظائفها الصوتية .
تهتم هذه اللسانيات أيضا بأنواع الإحالات والضمائر العائدة وبعض الصيغ الاسمية وأنواع المسند السابق ( 14 ) ، حيث تضبطها بمعية ضبطها لأنماط النصوص ، بناء على ترابطها وتسلسلها . كما تعالج موضوع الاستبدال وطرق تصور الخطاب وبعض التعبيرات النكرة المحلية ( 15 ) .
تتطرق لسانيات النص إلى التماسك النصي textual coherenceالمعنوي ودوره في الفهم والتأويل عند المتلقي ، حيث تبرز الوظيفة الاتصالية للعمل المحلل بكل أقوالها وأفعالها الإنجازية التداولية وأثر استعمال المتلقي لمعرفته بالعالم وأنواع تحليلاته ( 16) وطرق تصوير المعلومات العامة .
تبرز هنا الرصانة والحصافة العلمية لبعض المعالجات الذهنية الخاصة بالنصوص المدروسة في هذا المجال ؛ حيث نجد :
أ _ الإطارات المعرفيةframes : تخزن المعلومات عن النصوص في الذاكرة على شكل بيانات نموذجية تتكيف مع الواقع والظروف ، حيث يتم تغيير بعض التفاصيل تبعا للحاجة الملحة .
ب _ المدارات scripts: يتم رصد العلاقة بين المواقف والسلوك لتسود عملية الفهم على شكل تصورات تابعة دلاليا .
ج _ المخططات الذهنية scenario : تساعد على خلق مجال مرجعي موسع ، يسهم كثيرا في تأويل النصوص المكتوبة . تراعى الظروف المحيطة والسلوكيات النفسية المختلفة ، المتعلقة بسياق الموقف context of situation
د _ الأنساق الذهنية s chemata: تخلق (( نحوا)) ذهنيا محددا اجتماعيا وثقافيا بالنسبة لكل عمل مدروس . إنها تمثل خلفية معرفية تجعل المتلقي يتنبأ بمظاهر محددة عند تأويله لخطاب معين .
ه _ النماذج الذهنية schema : إنها عبارة عن تمثيل يتخذ شكل نموذج داخلي لواقع الأمر كما تعرضه المتواليات والملفوظات الخطابية . لذلك فهي تقوم بربط اللغة بالعالم ، من خلال القوة الذهنية العقلية ، مما يخلق عدة تمثلات .
توظف أيضا هنا بعض الاستنتاجات اللازمة والاستدلالات التي تخلق علاقات غير تلقائية وتسد الفراغات التي قد تظهر بين طيات عملية الفهم والتأويل للنصوص المتنوعة .
المتلقي ولسانيات النص :
ذكرنا فيما سبق أن لسانيات النص تمثل تجاوزا للمدرستين اللسانيتين ؛ البنيوية والتوليدية . لذلك فهي تمثل مشروعا لغويا جديدا يقع ما بعد الحداثة ، حيث إنها عايشت محطتين فكريتين رئيسيتين ، هما :
1 _ نظرية التلقي .
2 _ استراتيجية التفكيك .
لقد وقع تحول كبير في منتصف سبعينيات القرن الماضي بالنسبة للسانيات النص ، حيث ظهرت على الساحة النقدية العالمية مدارس جديدة ، اشتد عودها مع بداية الثمانينيات ؛ مثل التاريخية الجديدة والماركسية الجديدة والمادية الثقافية والنقد النسوي وما بعد الكلونيالية والنقد الثقافي .
تأثرت نظرية التلقيreception theory ببعض الأطروحات الوافدة من الفلسفة وعلم النفس ، وخاصة المدرستين الألمانيتين ؛ الظاهراتيةphenomenologyوالتأويليةhermeneutic .
تقوم الخطابات المتنوعة التي تدرسها لسانيات النص على أنظمة لغوية محددة العلاقات والوظائف بين العناصر والسياقات وظروف الإنتاج والفضاءات الزمكانية . لذلك فإن (( العلامات النصية )) تحتاج في هذا المجال إلى شخص يتلقاها لكي يمنحها دلالاتها ومقاصدها التداولية ويتجاوب معها لأنه لاوجود ولا حياة للنصوص المتنوعة ولا قيمة لمعناها من دون المتلقي ، الذي قد يكون فعليا أو ضمنيا implied reader. فهو الذي يمنحها معانيها الحقيقية ، من خلال إدراكه ووعيه الخاص . تتظافر في هذا المستوى ثلاث سلط للقيام بهذه المهمة الشائكة :
أ _ سلطة الكاتب .
ب _ سلطة النص .
ج _ سلطة المتلقي .
لذلك فإن المتلقي المتمرس يلعب دورا مهما في مجال لسانيات النص ؛ إذ أنه يستخدم استراتيجيات قراءة معينة لصناعة معاني الخطابات التي تصادفه . يملك هذا المتلقي (( نطاق توقعات )) ، أو (( مؤسسة تأويل )) اتفاقية يستهل بها عملية الفهم والتأويل للنصوص . يستلزم هذا الأمر توفر بعض الشروط الجوهرية :
1 _ وجوب امتلاك المتلقي المتمرس لشفرة أو استراتيجيات تفسير ونقد ملائمة للنص المحلل .
2 _ ربطه لعلاقة النص برؤيته للعالم والفرضيات النظرية والاهتمامات الخاصة والتجربة الذاتية .
3 _ بناؤه واكتشافه للمعنى عن طريق منح الدلالة مشروعية تأويلية على المستوى النقدي .
4 _ قدرته على ملء فراغات النص المفسر وتكملته .
يمثل هذا المتلقي (( قدوة )) لأنه يستطيع الربط بين تجربته في القراءة للنصوص وبنية القصد .
يبذل المتلقي في مجال لسانيات النص جهودا متواصلة عند كل مرحلة من المراحل السابقة لإعادة البناء والتركيب والتكملة ، وهو ما ننعته ب(( مسار العروج )) . إنه هو الذي يعضد وينقح ويقوم في كل مرحلة عمليات بناء متراصة من أجل الربط بين تجربة المتلقي في قراءة النص والعلامات الهيكلية للنص وقصد الكاتب و(( نطاق التوقعات)) الاتفاقية أو (( مؤسسة التأويل )) العامة .
يقدم هذا المتلقي قراءة نقدية غير استهلاكية ، حيث يتجاوز رصد المعاني اللفظية ليتوغل في أعماق دلالات ومقاصد النصوص . إنه يركز على السياقات الثقافية للعمل ، فيميز بين أساليب مختلف العصور والمدارس والمؤلفات ويسبر أغوار المنطق الداخلي للإنتاج ، من خلال تذوقه الجيد . كما يضبط الأصوات والإيقاعات والألوان والخطوط البانية للإبداع تبعا للمنطق والعقل والموضوعية . يتعقب المتلقي هنا الخصائص الحسية فيربط المعاني بتجربته الخاصة ليصل في النهاية إلى تحديد الخصائص الأسلوبية المؤطرة للعمل برمته( 17 ) .
يمثل المتلقي في مجال لسانيات النص ذاتا متميزة ، تحمل تجربة خاصة ترتبط بقراءة أو( مشاهدة ) نص يجسد موضوعا حيا ، الأمر الذي يجعل الاثنين يتوحدان معا ، فيصبح الفصل بينهما صعبا جدا . ينتقل المعنى هنا من داخل النص إلى داخل المتلقي . لذلك تغدو العلاقات والوشائج متينة بين المتلقي والنص ، أكثر منها بين المتلقي والكاتب . لكن لايمكن للمتلقي فهم وتأويل النصوص في هذا المجال اللغوي بمعزل عن قصد الكاتب . فهما يساهمان معا في بناء الرسالة التي يقدمها النص .
إن طرح لسانيات النص لسلطة المتلقي ، من خلال علاقتها بالنص قد قضى على فكرة النص المغلق كما كان عند البنيويين ، لكنه فتحه بطريقة موضوعية وواعية . فالعلاقة بين الطرفين هنا جدلية ، حيث تتعدد أسئلتها ومثيراتها ، التي تدفع المتلقي إلى إنتاج نص نقدي حول نص إبداعي .
تبقى سلطة المتلقي متعادلة ومتكاثفة مع سلطة الكاتب وسلطة النص . فهي لا تقوم لمجرد التفسير فقط ، بل تتوخى الكشف عن الشروط التي تمنح النص تأثيرات متنوعة والكاتب وجودا فعليا موضوعيا ووضعيا . يوسع هذا المتلقي قصد الكاتب ويطوره بفعل القراءة التفسيرية (( الطيبة )) ، حيث يؤول نسق العلامات النصية ليمنحها معانيها التداولية ويتجاوز وجودها المادي واللفظي .
يرتبط مفهوم ( القصد ) intentionعند الكاتب بمغزى نصه الإبداعي ، الذي يروم إيصال رسالة مفهومة ومحددة الوظائف اللغوية ، التي تستند إلى وعي المتلقي .
لقد ارتبطت لسانيات النص بتحولين مهمين وقعا ما بعد الحداثة ؛ هما :
أ _ التحول في مسار العلامة اللسانية بعد وفاة فردينان دو سوسير.
ب _ التحول الكبير في المرجعية التي لم تعد قارة .
إن الأحداث الثقافية التي سيطرت على مرحلة ما بعد الحداثة كانت هي السبب في جل هذه التحولات التي لحقت لسانيات النص . أدت أسباب ونتائج هذه التحولات إلى ضرب سلطة النص المدروس . لذلك فقد أصبحت هذه السلطة تقف في مفترق الطرق بين عالم الواقع وتجربة المتلقي ، التي تمنح في النهاية الخطاب وجودا ومعنى جديدا . تعددت في هذا المنحى قدرات النص على تحقيق تعدد الدلالة وكثرت المراوغات وانتهت عملية التوحد بين الدال والمدلول .
لقد قامت لسانيات النص في فترة ما بعد الحداثة لتفصل في أمر هذه الفوضى والترف الساذج ، حيث ركزت في اشتغالاتها ومقارباتها للخطابات المتنوعة الأجناس على كل ما من شأنه أن يوسع مدارك المتلقي ويوجه فهمه وتأويله بالنسبة للمحتوى الإبداعي فينصاع له بوعي وإدراك ، مما يكثف مساهماته ومسؤولياته في التنميط وتنوع الردود . طورت هذه اللسانيات طريقة نظرة المتلقي إلى النصوص باستخدام معيار الثبات وطمس جل المراوغات الدلالية لتخلق الدهشة واللذة والمتعة . إنها قد ساوت وعادلت بين سلطة الكاتب وسلطة النص وسلطة المتلقي ، دون إيثار أو تحيز لواحدة على الأخرى . لا يحدد هذا المجال اللغوي الجديد معاني النصوص بمعزل عن قصد منتجيها . إنه يوظف مفهومي (( المتلقي العادل )) و(( القراءة الطيبة /الوسط )) . نجد من طبيعة الحال عدة قراءات أخرى غير محايدة ، لا يعنينا أمر تحديدها حاليا .
مسار التحكم النصي عند المتلقي :
من المسلم به في هذا المجال اللساني الجديد أن تحديد دلالة النصوص يرتبط بالكاتب والخطاب والمتلقي ، بناء على عملية ثلاثية جدلية متلاحمة يسودها التعادل والمساهمة المتضافرة . يسعى هذا التخصص هنا إلى الحد من عملية الشك بتفسيرات المتلقي وفوضى الدلالة وأزليتها . لذلك فهو يهتم بما يعرف ب(( مسار التحكم النصي عند المتلقي )) ، حيث نجد :
1 _ سيادة المتلقي المتمرس / القدوة .
2_ استخدام نطاق توقعات أو (( مؤسسة تأويل )) اتفاقيةconventional ومعممة بين الكاتب والنص والمتلقي .
3 _ التوسع في الموضوعية والتقليل من الذاتية .
إن فعل القراءة هو فعل ذاتي ، لكن ممارسته بوعي تجعل المتلقي يفهم نفسه ويسيطر عليها بشكل جيد . إنه يمارس ، أثناء معالجته للنصوص المتنوعة ، نشاطا رمزيا توجهه رغباته المعقلنة ، التي تنتج عن الاختلاف الاجتماعي أو عن طريق تمثلاته التي يحملها عن نفسه . فمن خلال هويته واستجابات شخصيته المحايدة يقدم رؤية لهوية الكاتب والنص المحلل . كما أنه يضع نفسه داخل عقل الكاتب فيعيد خلق فعل الخلق ، الأمر الذي يمنح عملية التفسير صفة الشفافية ، التي تحيط علما بشكل فعلي بقصد الكاتب وتضعه في الواجهة . تصبح عملية التلقي هنا (( طيبة )) ولاعلاقة لها ب(( بالتواطؤ والاغتصاب )) أو (( التعطيل والإخصاء )) لمعنى النصوص المفسرة . يمارس المتلقي عدة مستويات من القراءة للنصوص التي يتعامل معها :
أ _ قراءة في جمالية النص .
ب _ قراءة في تاريخه .
ج _ الربط بين أفق الماضي والحديث للقراءة .
إن مهمة لسانيات النص بشكل عام هي تقصي وضبط الوسائل والطرائق التي تقنن تفسير الخطابات المتنوعة . فالتحليل اللساني في هذا المجال ليس ذاتيا ولا موضوعيا برمته ؛ إنه مزيج بين الاثنين بصورة متعادلة و متوازية و معقلنة ومعللة . لاتخلق النصوص من فراغ ولا يمكن أن تعيش في وسط يعج بفوضى التفسيرات والترف التأويلي التافه ، المعبر عن الخواء الحضاري وانعدام المسؤولية وضوابط التنميط والمساهمة في الإنتاج . لذلك فإن هذه اللسانيات تعيد الأمور إلى نصابها بشفافية وعمق وموضوعية ومسؤولية ، مراعية جل أخلاقيات البحث العلمي وأدبياته ، حيث تمنح سلطة الكاتب وسلطة النص وسلطة المتلقي قيمتها الجمالية والفكرية والفنية ، دون إيثار و طغيان و تبجح وحذلقة وترف أجوف متسول بالنسبة لسلطة على أخرى .

الهوامش :

( 1 ) d . Maingueneau . Initiation aux methodes de l""analyse de discours . Hachette universite . Paris . 1976
( 2 ) تعالج السيكولسانيات السلوك اللغوي وتجليا ته النفسية عند الإنسان . إنها تتقصى الأفعال الكلامية الناجمة عن التصرفات الفردية ، التي تتلون تبعا للسمات والخصائص النفسية المرتبطة بالمتكلمين . أما السوسيولسانيات فتهتم بالسلوك اللساني في تمظهراته السلالية والاجتماعية واللهجية _ الجغرافية . نجدها تطرح موضوعات ، مثل : التغيرات اللسانية ، التداخل ، الازدواج اللغوي ، المستويات اللغوية ، أنماط الخطابات المنجزة ، الوضع الاجتماعي للمتكلم ، معجمات المهن والوظائف والحرف والثقافات ، الظروف الاجتماعية للاتصال ، السلوك غير اللساني المتحكم في الإنتاج اللساني ، التنوع اللساني الجغرافي للغات وتوزيعها ، تخطيط اللغة / سياسة الدولة اللسانية ، الوحدة اللغوية في البلدان النامية ، اللغات الرسمية واللهجات الفرعية ، مشكلة التقعيد اللساني الاجتماعي التداولي ومستويات التحليل اللساني الاتفاقي ( الصوتية والصرفية والتركيبية والمعجمية والدلالية ) .
( 3 ) تتوزع الكلمات المعجمية تبعا لمداخل معينة ، تتحرك في إطار محدد . يجسد مفهوم التعادل equivalenceالعلاقة القائمة بين عنصرين لغويين . يقعان ضمن نفس الموقع ، مما يؤدي إلى تعادل ومساواة الموقعين :
أ _ اشترى وديع سيارة .
ب _ اشترى وديع منزلا .
ج _ الجدة تنظف المنزل
د _ يجب الاعتناء بالسيارة .
لذلك فإن كلمة ( سيارة ) و ( منزل ) تعدان من خلال هذا الطرح متعادلتين ومتساويتين . ونتيجة لهذا فإن القولين ( الجدة تنظف ) و ( يجب الاعتناء ) هما أيضا متعادلان .
( 4 ) نقصد بهذا المفهوم الروابط الفضائية ، التي تجسد إحدى حالات السياق
( 5 ) pegheux ( michel ) . Lanalyse automatique du discours . Ed. Dunod. Paris . P . 5
(6 ) المرجع نفسه ، ص 8 .
( 7 ) المرجع نفسه ، ص 16 .
( 8 ) j . A . Fishman . Sociolinguistics . P .69
كما ينظر كتاب وليام لايبوف عن (( السوسيولسانيات )) ، حيث يتعرض المؤلف للموضوع عينه . أنجزت الباحثة الفرنسية جولييت جرمادي كتابا يحمل نفس العنوان ، وهو مرجع مهم أيضا بالنسبة لهذا الموضوع .
( 9 ) نقصد بالتداولية / المقامية ، المقابل الإنجليزي pragmatic .
( 10 ) دومنيك ماينو ، مرجع سابق ، ص 105 وما بعدها .
( 11 ) ميشيل بيشو ، مرجع سابق ، ص 33 وما بعدها .
( 12 ) ج . يول و ج . براون . تحليل الخطاب . ترجمة محمد لطفي الزليطني ومنير التريكي . جامعة الملك سعود . الرياض 1997. ص 35 .
(13 ) halliday . M . A . K . And . Hassan . R . 1976 . Cohesion in english . London : Longman
( 14 ) تكون الإحالة داخلية ترتبط بالسابق كقولنا : حدد موقفك من المرأة . إنها تحبك حبا جما . فالضمير ( ها ) يعود على المرأة . وقد تكون خارجية ترتبط باللاحق : إنها تحبك حبا جما . فالضمير ( ها ) يعود على المرأة
( 15 ) ج . يول . ج . براون . مرجع سابق . ص 249 .
( 16 ) يكون التحليل صعودا ونزولا . فالتحليل صعودا bottom_up processing يبحث في معاني كلمات النص وبنى جمله ومتوالياته المترابطة ليؤسس معاني إجمالية متكاملة . أما التحليل نزولا top_ down processing، فهو الذي يتنبأ بمعاني الجمل والمتواليات الخطابية المتراصة بالاعتماد على السياق .
(17 ) عبد العزيز حمودة .الخروج من التيه ، دراسة في سلطة النص ، سلسلة عالم المعرفة الكويتية ، العدد 298 ، السنة 2003 ، 123 .
المغرب .
الفكر العربي بين لغة السياسة وسياسة اللغة
أ.د. عبدالسلام المسدي
عند بداية الوعي بوزن اللغة في صناعة الفعل السياسي، ينتابك سؤال ثمّ يغازلك بتقلباته كأنه ألوان من الطيف تتموج على صفيحة من المعدن المصقول والشمس بازغة عليه: أيهما أشد إغراء وأكثر إمتاعاً: أن نبحث في السياسة من خلال اللغة، أم أن نبحث في اللغة من خلال السياسة؟ أيهما أوقع في النفس وأيهما أجدر بإجلاء الحقائق في زمن دفن الحقائق: أن نعيد اكتشاف الحيثيات التي تصنع سلطة السياسة، أم نعيد اكتشاف اللغة كي نقرّ لها بالسلطة التي احتجبت؟.
حينَ يَصدق منا العزم على الانخراط في مغامرة الوعي الثقافي الجديد ستتبدل أمامنا أشياء كثيرة، وستتغير شيئًا فشيئًا مقاييسنا في إرسال الأحكام الجاهزة على السياسة وعلى اللغة. والرحلة إلى مدارات الوعي الجديد لها جواز سفر وحيد، هو أن نمسك أنفاسنا كي لا نتعجل الحكم القاطع، وأن نجعل مرامنا الذي نتغيّاه إعادة ترتيب بيتنا الإدراكي، ولن يسلبنا ذلك شيئًا من إرادتنا في اتخاذ الموقف الملائم تجاه الأحداث حسب ميولنا أو حسب سلم القيم الذي نرتضيه، ولكن البحث في علاقة السياسة بسلطة اللغة من خلال الوعي الثقافي الجديد يريدنا على أن نفصل فصلا جليًّا بين فهم أسرار العلاقة القائمة بين الإنسان ومراداته من الكلام وفهم حيثيّات الفعل السياسي قبل تزكيته أو إدانته. ليس مألوفًا عندنا أن نبحث في الآليات المحركة للغة في مجال السياسة ؛ لأننا لم نتشبع نواميسَ استراتيجيات الخطاب عامة وقوانين استراتيجيّات الخطاب السياسي تخصيصًا. فقد يدفعنا الحدث السياسي إلى الوقوف برهة على اللغة، وقد نستشهد ونحن نبحث في اللغة بقولة جاءت على لسان أحد السياسيين، ولكننا لم نعهد اتخاذ التقاطع بين الظاهرتين مجالاً للبحث والاستكشاف.

سلطة اللغة
إن اللغة في الوجود أداة مطلقة، وهي في السياسة قيمة مقيدة، ولكنها في الإعلام وظيفة متحكمة. وتجري العادة بأن الناس يهتمون بالحدث السياسي دون أن ينتبهوا مليّاً للصياغة التي نحكي بها تفاصيل الحدث، وبذلك تراهم يطابقون بين الحدث السياسي والخبر السياسي، فهم يُنزلون الأول منزلة المدلول والثاني منزلة الدال، فلا يخطر بالذهن لديهم أن يسعوا إلى تشقيق هذا عن هذا. لكأن رسالة الإبلاغ واحدة لا تصدر إلا عن أداء واحد، أو كأنما الخبر هو الخبر مهما تنوعت صيغه أو تلونت تجلياته، ومن وراء ذلك كأن الإخبار عن الحدث السياسي فعل في مطلق البراءة، بحيث لا تنحشر فيه مقاصد صانعه حين يصنعه.
اللغة سلطة في ذاتها، والسياسة هي السلطة بذاتها ولذاتها. فأما اللّغة فالإنسان يفعل بها الفعل على الناس، وكثيراً ما لا يكون واعيًا بسلطتها ولا بخطرها. وأما السياسة فأصحابها لا يتصورون أنفسهم إلا وهم يفعلون الأفعال بالناس على الناس، وبعضهم يمارس اللّغة وهو واع بقوتها إذ تشد أزر سلطته، وبعضهم لا يعي أن وزن سلطانه بوزن سلطة اللغة. وفي مسافة ما بين هؤلاء وأولئك تزدهر الحياة أو يخبو وهجها. السياسة هي السلطة الغائبة، والذين يصوغون الأحلام الإنسانية يرون أن العالم كان يمكن أن يكون أسعد لو أن السياسة قلصت من حضورها في وعي أصحابها، وأن اللغة قلصت من غيابها عن جمهور الناس المحكومين بالسياسة.

منذ صباح التاريخ، يوم بدأ الإنسان يدوّن لمن بعده مآثره، كانت اللّغة أداة أساسية من أدوات السياسة، لم تكن أهميتها تقلّ عن أهمية المال وأهمية الاحتماء بالعصبية، غير أن وزن اللغة في استواء أمر السياسة قد تطور بتطور آليات الإنسان في تواصله مع الإنسان، ثمّ تضخم عندما أصحبت المعلومة ملكًا مشاعًا بين الحكام والمحكومين. إن ذاك التطور الذي آل إلى انتصاب اللغة سلطة داخل سلطة السياسة قد مر بمحطات كبرى، هي تلك المنعرجات التي آلت بالمعلومة إلى الملك المطلق المشاع: المحطة الأولى نشأة الصحافة، والثانية ظهور البث الإذاعي، والثالثة ظهور البث التلفزي والرابعة استحداث الإنترنت؛ إنها كالمراحل الجنينية التي استوى فيها سلطان اللغة، وتم فيها الاعتراف لها بسلطانها، ومنذئذ سيكون من الغباء أن نعزل سلطة السياسة عن سلطة اللغة، وسيكون وجيهًا أن يسأل السائل وهو ينخرط في ميثاق قراءة الهم الإنساني: أيهما أكثر اقترافاً للإثم، سياسي يزهد في اللغة أم لغوي يستهجن السياسة؟ وقد يبحر السؤال بصاحبه بعيدًا: أيهما أحق بالكشف: لغوي يحترف تسويغ السياسة أم سياسي يتجنى على اللغة؟.

إن البحث في السياسة بتجرد منهجي ومن منطلق وعي ثقافي جديد – لا سيما عن طريق فنون تحليل الأقوال – يقتضي مصادرة مبدئية هي الحياد الفكري الضامن للتشخيص العلمي، ولكن الموضوعية في البحث اللغوي والدلالي لا تلغي وقوف الباحث على درجات السلم القيمي، بل كثيرًا ما يكون الانتماء الأخلاقي والالتزام بمواثيق الحق الإنساني والانخراط في معايير العدل المطلق هي التي تحفز الباحث على أن يرى في علاقة اللغة بالسياسة ما لا يراه غيره. ذلك أن الشائع بين الناس هو أن السياسي يهتم باللغة اهتمامًا عارضًا، واللغوي يتابع القضايا السياسية بوصفه كائنًا اجتماعيًّا أكثر مما هو ذو خصوصية معرفية.

نحن نرى إذن كيف تتعدد دوائر النظر كلما حاولنا إلقاء النور على الجسور الواصلة بين السياسة واللغة، وتتشعب أدوات الرصد والتحليل كلما خفيت علينا السلطة التي يكتسبها الخطاب، ومردّ هذا الخفاء أن مفهوم السلطة يستحوذ عليه الحدث السياسي، فلا يخطر على بال الجمهور في الشائع من الأحوال أن يقيم اقترانًا بين اللغة وهي إبلاغ، واللغة وهي صانعة للفعل السياسي ومحققة لحيثيّات إنتاجه، أما أن تتحول اللغة أحيانًا فتمسي هي جوهر الحدث السياسي في ذاته ولذاته فهذا مما لا يستوعبه الوعي العام إلا إذا انبرى الدارس اللغوي يبصّره به.

قوانين اللعبة
بعد لحظة الوعي الأولى بسلطة اللغة في مجال السياسة يكفينا أن نقف عند الكلام السياسي على أنه نصّ يحكي صدى عالم كامل من المعاني، ويكفينا أن نستلّ من السياق كل عبارة صنعت دهشتنا في برهة، ثم غمرها سيل الأخبار وغطاها تعاقب الأحداث. سنرى بأنفسنا عجبًا، وسنعيد اكتشاف التوالج المذهل بين كل الدوائر المرسومة أمامنا كالأطياف المتموّجة. إن لكل لغة من لغات البشر قوانين تنتظمها وتشد أوصالها بحبل متين لا تراه العيون المجرّدة، كالأسلاك المعدنية التي تتخلل الإسمنت المسلّح، وتصبح تلك القوانين أعرافا يتخاطب بها أفراد المجموعة المنتسبين إليها بشكل أصلي أو بشكل طارئ، وداخل تلك القوانين العامة قوانين أقل منها عمومًا تجعل للكلام الأدبي ترتيباته الخاصة، وللكلام القانوني حيثياته، وللكلام العلمي قواعده أيضًا، وتجعل للكلام السياسي ضوابطه وقوانينه بحسب تصور المتكلم للمعايير الشائعة بين أهل ذاك الحقل الشاسع الفسيح الذي لا يخرج من تحت سقفه كائن مهما كان. فمَن جهل تلك الضوابط والقوانين تحدّث في السياسة وهو غافل عن أسرار لغة السياسة حتى ولو كان ماسكًا بزمام القرار، ومتربعاً على كرسي المناصب، فيأتي خطابه السياسي كخطاب الهواة في لعبة السياسة، ومَن عَلم تلك الضوابط والقوانين وخَبرها تحدث في السياسة وهو واع بأسرار لغتها، ماسك بأزمّتها، حتى ولو لم يكن يومًا متبوئًا لمنصب القرار، فيكون إذا تحدث في السياسة قادرًا على أداء الخطاب، صانعا لأنموذج الاحتراف.

لا يقوم أمر السياسة ولا يهون موردها إلا إذا آزرها المال وعَضدها السلاح، وتلك حقيقة قديمة غدت من بدائه العقول. أما الآن فقوة المال وقوة الأعتاد في حاجة إلى سلاح الخطاب، وجزء من مأساة الجماعة أن اللغة كلما ظن أهلها أنها فصيحة بنفسها، بليغة بذاتها، ازدادوا زهدًا في علم صناعة الخطاب وفي علم تفكيك الخطاب، فيزداد بعدئذ ابتعادهم عن الركب في ملحمة التسابق الكوني على كسب معركة الخطاب. إن القول السياسي لا يذعن إلى آليات القيمة إلا إذا كان إخبارًا عن حقيقة عينيّة تنضوي تحت فحوص الإثبات، عندئذ فقط ينصاع علنًا إلى الحكم إذ يدخل تحت طائلة الصدق أو الكذب: كالإخبار عن عدد الجيوش، أو عن عدد القتلى، أو عن حجم المبادلات التجارية، أو عن قيمة الصفقات وأرقام الصادرات والواردات. أما القول السياسي الذي يتصل بالتقدير الظني أو بالتفويض الاعتباري فهو مستظل بسحابة النسبية المطلقة. القول الأول هو قول عن حقيقة الواقع المعيش، والقول الثاني هو قول عن تقديرنا نحن لذلك الواقع المعيش. في الأول تقف وظيفة اللغة عند حدود وصف الواقع كما هو فتقدم لنا عنه صورة فوتوغرافية، وفي القول الثاني ترسم اللغة لوحة نحاول نحن من خلالها أن نستشف صورة الواقع.

تفكيك الخطاب
السياسة واللغة قرينتان متلازمتان، حيثما رأيت الواحد بدا لك الآخر، فإن لم يتكشف لك بوجهه فاعلم أنه ثاو وراء قرينه، وليس من قول في السياسة إلا خلفه فعل سياسي لأن القائمين على أمور العباد لا يُنشدون أشعارًا وهم يسوسون، ولا يطمحون إلى صنع الجمال وهم يحكمون، وما من فعل سياسي إلا وهو يُنتج بالضرورة خطابا، فإما هو خطاب الحاكم فهو ساعتئذ امتداح وزهو وتبرير، وإما هو خطاب المحكوم فهو تظلم وارتياد إلى الأفضل. كان الفعل في السياسة هو الذي يجر اللغة إليه جرًّا، فهي أبدَ الدهر محكومة به، ولكن الوضع قد تغير، وتوشك الأدوار أن تنقلب فيه أحيانًا، والسبب أن سياسة أمور الناس داخل الأوطان قد كانت هي الأصلَ وهي المبتدأ، وتأتي بعدها سياسة الروابط بين الوطن وسائر الأوطان في الأرض المعمورة، ثم حصل الانقلاب على مدار العقود، فأصبحت سياسة الوطن محكومة بشبكة العلاقات المعقدة القائمة بينه وبين سائر الأوطان.

إن الوقوف على الجسر الواصل بين الفعل السياسي والقول اللغوي الذي انبثق منه قد يمثل لحظة ممتعة لكل من يستهويهم سرد الأخبار، أو يغويهم إنعاش ذاكرة الأحداث، ولكنه سيمثل لحظة غنية لمن يستدرجهم كشف الأسباب التي تقبع خلف الوقائع التاريخية، ولمن يسعدهم إماطة اللثام عما سكتت عنه وكالات الأنباء أو غيّبته نشرات الأخبار أو خاتلته افتتاحية الصّحف. تفكيك الخطاب عدسة مجهرية عالية الجودة تحضنا أن نستطلع كيف تجري مسلسلات السياسة، وكيف يحيك أهل الشأن والقرار نسيج الأحداث. قد نكون ممن يحملون هموم السياسة، ويعشقون استكشاف الباطن من خلال الظاهر، ويسلّمون بأن المصرّح به في عالم السياسة شيء نزير إذا ما قيس بالمخفي منها سواء ما انحجب بنفسه وما غيّبه الحاجبون وقد نكون من الذين أرّقهم إلقاء السؤال حتى تملكهم الهوس ؛ فأصبحوا مولعين بإسقاط الأقنعة التي يصطنعها الإعلام في عصر الخطاب الكوني الموغل في المكر والمباهي بالدهاء، أو ربما نكون شغوفين بفك الشفرة التي بها يلعب صناع القرار الدولي بعقول الأفراد والجماعات : في كل تلك الاحتمالات سيكون ملاذنا الوحيد هو اللجوء إلى علم تفكيك الخطاب، فهو الكاشف لما توارى من أسرار فبديهي أن نزعم بأنه أحد مفاتيح الوعي الثقافي المتجدد.

مضى زمن كان وجيهًا فيه الجدل بين قائلين بأن اللغة إن هي إلا أداة للتفكير ثمّ أداة للتعبير، وقائلين بأنها هي التفكير من حيث إنها العقل إذ يفكر؛ مضى ذلك الزمن لأن نظرة ولو عجلى في مسيرة الفكر الإنساني، منذ تجددت فلسفاته الحديثة ومنذ تعاقبت الرؤى التفسيرية أو التأويلية لعلاقة الإنسان بالكون الخارجي، تُطلعنا على سلك خفي لاحم مداره التسليم بأنه لا شيء يُدرَك إلا باللغة. ولا شيء يدرك إلا من خلال اللغة. فلا شيء يدرك خارج سلطة اللغة. ولكن الجديد الأجدّ هو أن تصريف المسألة بهذا الصوغ لم يعد أحد يحمله على أنه من فقاقيع نرجسيّة العلم اللغوي، ونكاد نجزم – بعد طول استبصار وامتداد الأناة – أن السبب الذي من أجله وبفضله زالت عن العلم اللغوي تهمة التسلط وجريرة الاستحواذ هو استسلام حقلين عملاقين لسلطتها: حقل العلوم الحاسوبية وحقل العلوم السياسية، رغم أن هذا التسليم قد تم إذعانًا للاعتراف بسلطان الآلة اللغوية، ولكن العاقل لا يمكنه أن يقرّ لموضوع العلم بالسلطة ثمّ ينكر على علم الموضوع سلطته. فالجميع على يقين اليوم بقوة سلاح اللغة، بل بجبروت توظيف الإنسان لها، وعلى يقين بتحكمها المطلق في التواصل والمعرفة، وليس بوسع الجميع إلا التسليم – ولو على وجه المصادرة – بخطر العلم اللغوي لأن موضوعه اللغة.

إنتاج الخطاب السياسي
إن البلاغة الجديدة تعلن لك عن نفسها في اللحظة التي تعلن فيها أنت عن التسليم بانحسار سلطة المصرح به مقابل تضخم سلطة المسكوت عنه. وإن أبواب الإدراك الجديد لآليات السياسة الجديدة تتفتح لك واسعة فسيحة حتى تتقن مهارة القراءة الجديدة فتعرف كيف يتم تسريب القناعات، وحقن الولاءات، وتهيئة النفوس باختراق أسوارها شيئًا فشيئًا. إن اللغة بصورها الشعرية الفاتنة لهي ألين المطايا لإنجاز الامتلاء في غياهب اللاشعور، وهذا هو فاتحة الوعي الثقافي الجديد بدلالة عديد العبارات التي يحملها الناس محمل الكلام الإيديولوجي الخاوي من المقاصد المتعينة، بينما تقوم في حقيقتها مقام المصطلحات المدققة المضبوطة : التوجيه النفسي، والتحكم الإدراكي، والغزو الذهني ؛ إنها حقائق وليست من الأوهام في شيء. ذاك شيء نزير من ملحمة فائضة، هو قطرة تُبلّلنا عند الوعي بها والحال أن أنهارًا منها تغمرنا صباحَ مساء فلا نشعر بابتلال لأننا غافلون عنها. فكيف يتم إنتاج الخطاب السياسي وكيف يتمّ استقباله ؟

هو سؤال يرتدّ إلى مسألة المدارك الذهنية واختلاف مستويات التعامل معها. إن الظاهرة الإدراكية ملازمة للكلام التداولي في كثير من لحظات استعمال الإنسان للغة، وهي ملازمة أكثر للكلام الأدبي لأنه خصيصة من خصائص شعرية اللغة. لكن الذي بدا لنا، ثم ارتسخ حتى غدا قناعة حميمة على طول التردد واطراد الحيرة، هو أن خير ما يجسم هذا البعد الإدراكي بين أبعاد الظاهرة اللغوية – أيا كان نمط اللسان الذي تتشخص به – إنما هو القول السياسي. في الأغلبية الغالبة من الأحيان عندما نكون حيال القول السياسي ولا سيما في لحظة مباشرته الأولى أو في لحظة إنشائه والإصداح به نبحث عن المعنى فنكتشف أنه لا يوجد في البناء النحوي للكلام، ولا في دلالة الألفاظ المعجمية، ولا يوجد في السياق التركيبي بين الجمل السابقة والجمل اللاحقة، ولا هو موجود في المقام التداولي باعتبار الروابط العالقة بين المتكلم والسامعين، ولكنه يوجد خارج الحدث اللغوي التواصلي تماما. وسنقول – بشكل مبدئي وعام – إنه يوجد مبثوثا بين شاشة الأحداث الجارية وخزانة الوقائع الماضية، فهو مزروع على أرض الذاكرة السياسية المتحركة، إنه يثوي بين حقيقة تاريخية مضت وحقيقة تريد أن تنشأ.

مع مشهد البلاغة السياسية، نحن بحضرة نص مغاير لطبيعة النصوص كما كنا نعهدها، نحن بحضرة ما قد نسميه بالنص الوامض إذ هو بمثابة اللوحة الخاطفة المستقلة بنفسها، هو النص اللمّاح عماده الصورة الفنية الآسرة التي تَعْبر بنا من حقل المجاز الغنائي، حيث يصفق المستمع لفصاحة الخطيب المصقع، أو يرسل آهاته، أو يطلق زفرات في قالب تكبيرات وتهليلات، إلى حقل الاستيعاب الذهني والتركيز الإدراكي. إن الصناعة اللغوية هي أسّ من أسس المعمار الذي تتشيد عليه استراتيجية الخطاب السياسي، ويعلو به صرح الفعل الإجرائي، لأنها الجسر الذي تتهيأ عليه آليات التخييل.

إنه النص اللماح ذو الومضة النافذة عبر الصورة التشبيهية الرشيقة. ولك أن تبحر في الكشف عن المخفيّات الدلالية، ثمّ تتساءل: أين مكمنها؟ وكيف صارت عند أهل الذكر يقينية والحال أنها عند النظر اللغوي البسيط افتراضية تمامًا؟ وما الذي تضفيه الصورة إذا ما قيست إلى الكلام الذي يخلو من الصورة؟ ثمّ منذ متى تتعطل أداة التواصل باللّغة امتثالاً لحيثيّات المرجع الواقع خارج سياق اللّغة؟ إن السؤال في غاية البداهة، وفي غاية الغرابة معًا: كيف تَنتج اللغة؟ ولكن السؤال ينحل إلى الصيغة الأخرى: كيف يُنتج الإنسان اللّغة؟ وهذه الصيغة هي نفسها تتضمن شقين اثنين: كيف يُنتج الإنسان اللغة حين يتكلمها وكيف يُنتجها حين يتلقاها فيفهمها؟ وبما أن اللّغة ليست إلا وسيلة لإيصال شيء يقال له المعاني، أو الأفكار، أو الدلالات، فإن كل الأسئلة السياسية تجتمع في صيغة واحدة دقيقة: كيف يُدرِك الإنسان المعنى؟ وهل المعنى السياسي وديعة نأخذها كما نأخذ أي معنى مجسم ملقى أمامنا؟ أم هو وديعة جاهزة، ولكنها مخفية نبحث عنها – قليلاً أو كثيرًا – كي نعثر عليها ثمّ نلتقطها من مخبئها؟ أم شيء نساهم نحن في صنعه وفي إنتاجه فيتحتم في كلّ الأحوال أن نتساءل: أين يكمن المعنى؟

الفعل اللغوي والفعل السياسي
إذا أمعنَّا في رحلة الاستكشاف كي نحاصر أنموذج العلاقة القائمة بين الفعل اللغوي والفعل السياسي وقفنا على حالات قصوى، تنفصم فيها مطاطية الإدراك بحكم تشظي معايير التأويل. إن اللغة ساعتئذ تمسي آلة لإنتاج اللامعنى، ثمّ إنها – تحت وطأة السلطة السياسية – تتفكك إلى دلالات سريالية خالصة، فينتج الحدث الموغل في انتهاك الأعراف.

إن من أسس الوعي الثقافي الجديد التسليم بأن اللغة هي نواة المركزية الجديدة للكون، وللظواهر التي في الكون، ولإدراك الوجود المتعين في الكون، ولتفسير علاقة الإنسان بالوجود في الكون. إنها مركز “الفعل” الذي يتحول فيه الإنسان من واقع الإدراك والتأمل إلى تغيير ما يتأمل فيه. ولكن اللغة هي أيضًا مركز الفعل السياسي، وإن السياسة هي تتويج للفعل اللغوي قبل الإنجاز وبعده.

ها نحن وجهًا لوجه – وفي اللحظة الواحدة – بحضرة ضيفين وافدين كأنهما بالأصل متعاجمان: فن السياسية وفن الكلام، هما: القول السياسي والقول الإبداعي؛ بل هما: صورة الفعل السياسي وصورة الفعل الأدبي. وأول ملمح يطالعنا هو أن الخطاب السياسي الراهن ما انفك يتزيّن بالصور اللغوية الوافدة إليه من جماليات الأدب وإلهامات الإبداع، إنه في وئام متدرج مستديم مع الصورة الفنية التي هي في مجال النثر السياسي قائمة مقام الصورة الشعرية في النثر الأدبي.

لقد حَوَّلت السياسة الجديدة وظيفة اللغة القديمة فجعلتها دائرة على المخاتلة : في الأدب – في الشعر كما في النثر الفني – نأتي بالصورة ونحن راغبون في أن نقول إننا أتينا بالصورة، ولولا حياء اللّغة والأدب لتسابق الأدباء والشعراء إلى الإعلان عن مواطن الصورة في كلامهم، ولتوسلوا بألف مسلك كي ينصّوا على سياقات الجمال ومنعرجات الفن ونتوءات الفصاحة في صميم كلامهم الذي هو أدب وجمال وفن. أما في السياسة فصنّاع الخطاب المهرة ينتجون الصورة الشعرية وكلهم رغبة في أن يتكاسل الوعي عن إدراك أنها صورة، فوظيفة الأداء تزداد إلى كلامهم بقدر ازدياد غيبوبة الإدراك لدى المستقبلين لرسائلهم من عامة الناس وفيالق الجمهور. فهل نقول إن البلاغة الجديدة هي بلاغة الخطاب المرآوي ؟ ليكن؛ فلسنا في سياق يبيح لنا إرسال الأوصاف الأخرى من خطاب ماكر، أو خطاب خادع، أو مخاتل، أو مضلل، أو مراوغ. وإن كانت كلها من الألفاظ التي قد يحوّلها العقل إلى مصطلحات علمية بحثيّة عقلانية، بعد أن ينزع عنها إيحاءاتها المزاجيّة أو حيثيّاتها القيميّة المرتبطة بمعيار الأخلاق المطلقة. ليكن ؛ ولتكن معه لدينا قناعة راسية دائمة هي كالقانون الجازم : أنّ تصنيع الواقع يمرّ عبر تصنيع الخطاب. ثمّ لتكن لدينا أيضًا قناعة أخرى : أن السلطة الجديدة في عالم السياسة الكونية هي – بعد السلطة الدستورية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية ثمّ السلطة الإعلامية – سلطة صناعة الخطاب المطبوخ بحذق ومهارة داخل ورشات إنتاج الخطاب.

كل الثقافات الإنسانية عبر كل الحضارات قد أدركت – بصورة أو بأخرى- أن اللّغة البشرية ليست في مجملها إلا ألفاظا قد حصل حولها اصطلاح ليدلّ كل لفظ منها على شيء محدّد، إما قائم في عالم الموجودات الحسيّة، أو مستنبط من ذلك العالم وقائم في الذهن، أو مستخلص من تأمّل فكري محض بحيث لا وجود له إلا في عالم المجرّدات التصوّرية. ولكن مجال السياسة قد يفرض قوانين أخرى في إدارة العلاقة بين اللّغة ودلالاتها، سواء منها دلالة النشأة أو دلالة المقاصد، ذلك أن الحدث السياسي حقيقة محايثة لذاته، ولكن قراءته حقيقة مفارقة له، محايثة لذات قارئه، هو بطبعه كالنص في الوجود، والنص يُروَى ويوصف، ثمّ يفسّر، وقد يجنح به قارئه نحو تخوم قصيّة من التأويل. فقد لا نكون من هواة السياسة ولا هواة التسلي بالسياسة، وقد نكون من الذين حياتهم درس وعلم ومعرفة، وربما نكون من المنكبين على أمور اللّغة وأفانين الكلام، ولكننا لن نعرف العوالم المحجوبة ولن نكتشف أسرارها إلا إذا تقصّينا العلاقة الخفيّة بين اللّغة والسياسة، ففيها عجائب تشدّ الفضول وتأسر الانتباه، ومهما يكن شأننا في الحكمة والدراية فسنعثر على ما لم نكن نتوقع من لطائف المعنى ودقيق الدلالات.

صناعة الخطاب
لن يفيد العربَ كثيرًا أن يمتلكوا سلاح المال، ولا أن ينفردوا بمخزونات النفط، ولا أن يتطلعوا إلى توظيف الطاقة الذرية سلميًّا ما لم يمتلكوا سلاح الخطاب. لن يحقق العرب انتصارًا سياسيًّا في الساحة الدولية إلا إذا أتقنوا صناعة الخطاب، وتمرسوا بآليات تفكيك الخطاب، وتفوقوا في مهارات توضيب الخطاب. فبلاغة الخطاب شيء يعرفه العرب وينتشون به، وفصاحة الخطاب شيء يدركه العرب ولكنهم لا يقدرون عليه إلا بالارتياض العسير، أما صناعة الخطاب فشيء آخر يعثرون عليه بالصدفة ويقفون حياله مشدودين بالإعجاب، فمنهم من يوفق فيه عند الأوان، ومنهم من لا يستبصره إلا بعد فوات الأوان. إن اللّغة سلطة كثيرًا ما تندسّ داخل نسيج السياسة حتى لتكاد تحتكر لُباب الفعل والقرار، وكم من منعطف كانت فيه الكلمة هي الصانعة للحدث السياسي، وهي الراسمة لمعالم الموقف بكليته. ولئن كان هذا دأبَ اللّغة مع السياسة منذ القديم فإن تطور الحياة وانفجار منظوماتها قد أعاد ترتيب البيت؛ حيث تسكن تحت سقف واحد السياسة واللّغة.

إن ظواهر تطور العلاقة بين السياسة واللّغة ما كان لها أن تتحقق بالشكل الذي جاءت عليه، وما كان لها أن تمثل إنجازًا مهمًّا في التغيير الجوهري العميق داخل بنية الخطاب، لولا الانفجار الذي حصل في جسور التواصل اللّغوي والسياسي منذ شاعت تقنيات البث الفضائي الغزير، ومنذ أصبحت في متناول الملكية الخاصة التي تتحرر من قيود التسيير الموجه من طرف الأنظمة السياسية، ومنذ تبسّطت أدواتها بفضل التكنولوجيا العالية فأصبح هينًا تركيزها في شقة مّا، من عمارة مّا، في أي عاصمة من العواصم أو مدينة من المدن. ومما يقف عليه الناظر في هذا الانفجار الإعلامي الخطير أمران ذوا أهمية بالغة وفاعلية قصوى، ولا غرابة في أن يكون التغافل عنهما سببًا في فاعلية إضافية يكتسبها الخطاب لتحقيق آلية الاستدراج. أولهما : انصهار حيثيات الإدراك اللّغوي فيما بين المجال السمعي والمجال البصري وذلك بحكم التوالج الحاصل بين الكلمة والصورة مما لم يكن – لا للبلاغة الأدبية الموروثة ولا للخطابة السياسية القديمة – عهد به. أمّا الثاني فهو انضغاط زمن التلقي إلى أكثر الدرجات كثافة حتى لكأن لحظة الاستقبال الإدراكي قد انتقلت بالجميع من سرعة الصوت إلى سرعة الضوء. عند هذا المفترق الكبير – بكل شعابه السياسية والبلاغية والإعلامية والإدراكية – تولدت شعرية جديدة تنبني على استثمار اللّغة من خلال الصورة الفنية فانفلق الثالوث الكلاسيكي الموروث، ثالوث البوليتيقا والريتوريا والبويتيقا، وإننا لنزعم بأن هذا الميلاد قد كان مؤذنًا بتحول جوهري عميق.

الحياة

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا وخالٍ يشتهي عملا ً.. وذو عملٍ به ضَجِرا ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا وذو الأولاد ...