الجمعة، 11 مايو 2012

الكتاب و أهميته


الكتاب و أهميته
        إنها حكمة عالمية تختصر في أحرفها مجمل الثقافات والحضارات الإنسانية. منذ اكتشف الإنسان القراءة والكتابة، ساعده الكتاب على التفاعل مع الآخرين بأفكاره ومشاعره وقلقه وفرحه، وأيضًا عمل بفضل تلك المشاركة على تقدم علم المعرفة.        
وصدق من قال:
أعز مكان في الدنيا سرج سابح  ... وخير جليس في الأنام كتاب(1)
لأن الكتاب يعبر عن أكمل صورة متكاملة لفكرة من الأفكار أو موضوع من المواضــيع 
العلمية أو الأدبية علاوة أن للكتاب طواعية ينفرد بها عن غيره ،فأنت تستطــيع أن تــقرأه أو تتركه متى تشاء، لذلك سيظل محتفظا بمكانته كأبرز الوسائل التي يعـــتمد علـــــيها في الإقناع وتوسيع المدارك وتشكيل الآراء في سبيل الرقي العقلي والازدهــار الحضــــــاري والتقدم الاجتماعي المنشود، لهذا وذاك وجدنا للكتاب مكانة في مخيلة المبدع على العموم و المبدع العربي على الخصوص فهذا ابن دريد صاحب الجمهرة -الكتــاب المشهور- أمضـــــى ستين سنة وهو يحبر فيه و يجمعه سهرا و تعبا وعناء وبعد ذلك باعه لفــاقة وعسر في العيش وهو يردد:                                                                    
أنســت ُ به من بعد ستين حجة ً ... فيا طول شوقي بعده وحنـــــيني
وما كـنتُ أرجو أن أعيش بدونه ...ولو خلدتني في السجون ديوني
وقد تخرجُ الحاجات يا أم مالك ٍ ... نفائس من رب ٍ بهن ضـــــــنين*
    هذه العلاقة الحميمية هي التي ورثت الإنسان السبق و الظفر بأسباب التقدم والحضارة ومكنته من بلوغ أرفع الغايات وأعلى الطموحات واستطاع التمييز بين الحق و الباطل وبين الغث و الثمين ،فلولا الكتب تلك السجلات التي تسيطر فيها أعمق أفكار البشر وأروع أعماله لاضطر كل جيل إلى أن يعيد اكتشاف حقائق الماضي لنفسه لا يساعده في ذلك سوى التراث المنطوق أو المشافهة التي لابد لها من  التشويه والتحريف في روايتها وإعادة روايتها .فالكتب إذن تمنحنا وثيقة دقيقة وباقية لكل ما فكر فيه الآخرون "فالحضارة الحية الناضجة المتفتحة هي المناخ الصحيح والملائم لإبداع الكتاب الذي يولد المعرفة, وهذا الكتاب شريان عظيم الأهمية يغذي الحضارة ويغنيها ويوفر لها أسباب الديمومة والغنى"(2). وما يؤكد أن أمتنا منذ كانت معطاءة مهتمة بالعلم والعلماء، محترمة  إبداعاتهم و مؤلفاتهم ،واضعة الكتب في المنزلة الرفيعة " أن الفضل ابن سهل قال للخليفة المأمون يوما عندما وقف في مكان يشرف على غوطة دمشق: يا أمير المؤمنين هل رأيت في حسنها شبيها من ملك العرب ؟ يعني الغوطة .قال المأمون:بلى والله كتاب فيه أدب يجلو الإفهام ويذكي القلوب ويؤنس الأنفس أحسن منها."(3) وهذا الجاحظ -الذي حيكت حوله حكايات شغفه بالقراءة، حدث أبو هِفَّان قال : "لم أر قط ، ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ ، فإنه لم يقع في يده كتاب إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان ، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ، ويبيت فيها للنظر ." (4)بل نهمه في التهام كل ما تقع عليه يده أوصل الجاحظ إلى درجة عالية كانت نتيجته ثلاثمائة وستين مؤلفا -ذكر ياقوت الحموي في معجمه أسماء ثمانية و عشرين منها- كتب هذا كلّه بقلم ساحر، وإبداع فني رائع، فجمع بذلك إلى الإحاطة والشمولية، الإجادة والعمق وأظهر لنا في مؤلفاته عبقرية فذة، وذكاء نادر، وعقلاً يبهر، وإحاطة تدهش- ترك لنا قولة جليلة تدلل على أهمية الكتاب أورده في (الحيوان) يقول فيها: " والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يَمَلَّك، والمستميح الذي لا يؤذيك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق... والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسـانك، وجوَّد بيانك، وفخَّم ألفاظك، وعمَّر صدرك، وحباك تعظيم الأقوام، ومنحك صداقة الملوك، يطـــيعك فـــي الليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته فـي الحضر، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لـم يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتك، وإن هبَّت عليك ريحُ أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقاً به، ومتصلاً منه بأدنى حبل لم يضرك منه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، وإن أمثل ما يقــطع به الفـراغ نهـــارهم وأصحــاب الكفاية ساعة ليلهم نظرة فـي كتاب لا يزال لهم فيه ازدياد أبداً فـي تجربة وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين ومال ورب صنيعة وابتداء إنعام." بهذه الروح العلمية المثالية أحب أسلافنا القراءة وهاموا بها حتى كان ضياع الأموال والمكاسب أهون على أحدهم من ضياع الكتب أو تلفها." هجم الجنود مرة على دار ابن العميد ... واشتغل قلبه بدفاتره وكتبه , ولم يكن شيء أعز عليه منها,وكانت كثيرة تشمل جميع العلوم... فلما رأى ابن العميد خازن مكتبته سأله عنها فأجابه:هي بحالها لم تمسها يد,فسري عن ابن العميد, وقال لخازنه: أشهد أنك ميمون النقيبة، أما سائر الخزائن فيوجد عنها عوض وهذه الخزانة –أي مكتبته- هي التي لاعوض لها"(5)                                                              
       لذلك وجب علينا نحن أمة اقرأ أن نقرأ -ويكفي تدليلا على أهمية القراءة في الإسلام أن أول آية نزلت من القرآن الكريم ابتدأت بكلمة 'اقرأ' ونسبة لذلك سميت الأمة الإسلامية بأمة 'اقرأ' وفي إطار برنامجه الرامي إلى القضاء على الأمية وتعميم القراءة بين المسلمين,جعل الرسول صلى الله عليه وسلم فدية الأسير من المشركين تعليم عشرة من أبناء المجتمع الإسلامي-فالكتب على رفـوفها كائنات خرساء ،تــــحتاج إلى من يحـاورها ويجـــادلها لتحيا ونحيا قالها سقراط قديما «الكتب الموجودة على رفوفي لا تعرفني إلى أن افتحها، ومع هذا فإنني مقتنع بأنها تخاطبني بالاسم، إنها تنتظر تعليقاتنا وآرائنا».(6)  فعادة القراءة تنمي حواس الإنسان جميعا وتعمل علـــــى إيقاظ فكره وتحفيز تطلعاته إلى ما هو أرقى و أعمق ،فلو تجرد منها فسيبقى عقله صغيرا.                                      ولاشك أن القراءة هي الوسيلة الأولى للتحصيل وكـــسب المعـــلومات ،فإذا كان لكـــسب المعلومات أكثر من طريق ،فان أنصعها و أجلها القراءة فما يكسب بطريق المطالعة أكثر مما يكسب بالتجربة أو المشاهدة أو الاستماع . وكيف لا وهو الزاد الفكري والمعنوي الذي ُيشعر قارئه بنشوة لا تدانيها نشوة وهو حبل الوصال الاجتماعي بين الأفراد فقد عبر ذلك أحد الفلاسفة بقوله :"إذا امتنعت عن القراءة ثلاثة أيام, لا أحسن محادثة الناس " وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الإنسان بحاجة مستمرة لصقل مواهبه بمزيد من المعرفة والقراءة والإطلاع.                                                                      


                                                          
الهوامش
* وقال ابن خلكان في ترجمة الشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الطاهر ت (436) في كتابه: (وفيات الأعيان): (4/ 165). حكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التِّبْريزي اللغوي، أن أبا الحسن علي بن أحمد ابن علي بن سلَّك الفالي الأديب، كانت له نسخة بكتاب ((الجمهرة)) لابن دُرَيْد في غاية الجَوْدَة، فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها، واشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم -المذكور- بستين دينارًا، وتصفَّحها فوجدَ بها أبياتًا بخط بائعها أبي الحسن الفالي، وهي:
أنِسْتُ بها عِشرينَ حولاً وَبِعْتُها * * * لقد طالَ وَجْدي بعدَها وحنيني
وما كان ظَنِّي أَنَّني سأَبيعها * * * ولو خلَّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصِبْيَةٍ * * * صِغارٍ عليهم تَسْتَهِلُّ شُؤوني
فقلتُ ولم أَمْلك سوابق عَبْرةٍ * * * مقالة مكويِّ الفؤادِ حَزِينِ:
وقد تُخرجُ الحاجاتُ يا أمَّ مالكٍ * * * كرائمَ من ربٍّ بهنَّ ضنينِ

1-ديوان المتنبي،تحقيق :عبد الوهاب عزام (لجنة التأليف والنشر، الطبعة الأولى ،1944).            
2-الكسندر ستيبتشفيتش ،تاريخ الكتاب،ترجمة: د. محمد م. الأرناؤوط(الكويت:عالم      المعرفة،يناير 1998،العدد:169).                                                   
3-ابن عساكر علي بن الحسن بن هبة الله،تاريخ مدينة دمشق ،تحقيق:محمد بن غرامة  العموري(دمشق:دار الفكر،الطبعة الأولى ،1998م)                                   
4-ياقوت الحموي،معجم الأدباء،إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ،ج16(بيروت:دار      دمشق،دط،دت)ص75.                                                                     
5-مصطفي السباعي،من روائع حضارتنا(مصر:دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع،الطبعة الأولى،1998)                                                                                          6 -مقولة شهيرة للكاتب البرتغالي الشهير خوسيه ساراماغو.                                          







هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيك أستاذي الكريم و دمت فخرا لنا وللجامعة الجزائرية تحياتي.

    ردحذف

الحياة

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا .. وشيخٌ ود لو صَغُرا وخالٍ يشتهي عملا ً.. وذو عملٍ به ضَجِرا ورب المال في تعب .. وفي تعب من افتقرا وذو الأولاد ...